بسم الله الرحمن الرحيم




 

 

القضيَّةُ المصيريّة



لا يخفى على عاقلٍ أنَّ الأُمّةَ الإسلاميّة تعاني من الانحطاط في عصرنا الحاضر، والتخلُّف عن ركب التحضُّر المنوط بها من ربِّ العالمين، فقد وصفها تعالى بأنها خيرُ أُمّة، قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه...}، بعد أن كانت لقرونٍ كثيرةٍ تسير على درب النّهضةِ الصّحيحة منذ أن تركها رسول الله -ﷺ- على المِحجّة البيضاء، وترك فيها سِرّ نهضتها من قرآنٍ وسنّة ونموذج النبوّة المثالي، قال -ﷺ-:(تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما : كتابَ اللهِ ، وسُنَّتي...)، إلى أن ابتعدت الأمّة عن دينها، وضَعُفتْ قيادةُ الإسلام الفِكريّةِ فيها؛ أي انخفض فهمها لدينها وانحدر معه إحسانها في تطبيقه، ممّا أدّى إلى سهولة الانقضاضِ عليها من قِبل الكافر المستعمر، فهدم دولتها، وأقام عوضاً عنها كياناتٍ وظيفيةٍ، وجعل على هذه الدويلات عملاء له يقومون بما يمليه عليهم ويحقق مصالحه...



وتوالت المصائب على الأمّة من كل حدبٍ وصوْب، فبعدما سقطت وتمزّقت دولتها الواحدة الجامعة، أصبحت متشرذمة، كالأيتام على موائد اللِّئام، ولم يعد هناك من ينصرها أو يحميها، فاغتُصبت أراضيها، كما حصل في الأندلس وما عانى أهلها من إبادةٍ عرقيّة فيما يسمّى محاكم التفتيش، واحتُلّت فلسطين مسرى رسول الله -ﷺ-، وما يحدث في تركستان الشرقية علينا ببعيد، احتُلّت هي الأخرى وعَمِد المحتلُّ إلى محاولة تدجين أهلها وسلخهم عن عقيدتهم، وتداعت الأمم علينا .. احتلال انجليزي، ونهبٌ أوروبّي، وقصفٌ روسيّ، وتحكّم أمريكيّ بالدول التي تحكمنا كما لو أنها تتلاعب بالدُمى، إجرامٌ من الجميع...



فكان لِزاماً على كُلِّ مسلمٍ أن يَهب نفسه لله ودينه، وأن يمتثل أمره، وأن يكون موضوع نهضة الأمّة وعزّة المسلمين على رأس غاياته، لتتمكّن الأمّة بعد تخلُّصها من غياهب جُبِّ الظلمة الحالكة التي عانت منها، أن تُبلِّغ رسالة الإسلام للبشرية كُلّها، ولتنشر الهدى ونور الحق ليعم كل الأرض.


وكان مُحتّم أيضاً على حَمَلةِ الدَّعوة أن يتّخذوا إجراء الحياة أو الموت في سبيل ما يحملونه. فمعنى القضيّة المصيريّة، أي منتهى الأمر وغايته، وما تتعلق به جميع القضايا الأُخرى، فهي أمرٌ جلل وعظيم لا يمكن تفويته، وتُبذل في سبيله الأرواح.



أمّا عن ماهيّةِ وحقيقةِ هذه النهضة، وفيمَ تتحقق وتوجد، فقد قامت الكثير من الجهود في الأمّة، وسُلِكت سُبلٌ عدّة مُحاولة الوصول لغاية نهضة الأمة، فمنهم من ظنَّ أنَّ البوصلة أولاً يجب أن تكون مُتّجهةً نحو الأرض المباركة فلسطين وحدها دون إعارة أي انتباهٍ لغيرها، وبتحريرها وحدها من أيدي الغاصب تُحرّر الأمة! ثُمّ ننطلق لغيرها، ومنهم من قال بتكوين مؤسسات وجمعيات على جميع الأصعدة الممكنة والمتاحة في المجتمع حتى نحقق الكفاية في تحسين أحوال الأفراد، ومنهم من قال أنّه بدايةً لا بُدّ من منازعة القوّة بالقوّة لوقف إراقة دماء المسلمين...


لكنّهم جميعاً أغفلوا حقيقة وواقع أن كُلَّ هذه الأمور تحتاج لقوّةٍ مُنظّمةٍ متمثّلةً بكيانٍ يمتلِكُ قراره وأمانه، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يرتقي عمل الفرد أو حتّى الجماعات للقيام بدور وأعمال الدُّول وأنظمتها، ذلك لأن كيان الدولة لا يستطيع أن يقارعه إلا دولةً مثله، وغياب إدراك هذا الأمر يؤدّي إلى استنزاف وضياع الطّاقات، ويجعل أصحابه يدورون في حلقةٍ مُفرغة، بلا نتائج مؤثّرة تصبُّ في الغاية المرجوّة.


هذا بالإضافةِ إلى أنَّ تحرُّكنا يجب أن يكون بناءً على ما رتّبه علينا الشرع لا الفكر المجرّد عنه أو العاطفة، ومن هنا مشروعُ النّهضة وطريقة تحقيقه يجب أن يكونا من جنس العقيدة وما ينبثق عنها من أحكام، يقول الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}، فكما تقدّم في بدايةِ الحديث وعرّجنا على شيءٍ ممّا حدث في بُعد الأمّة عن  دينها، وبالتّالي سقوط خلافتها حامية بيضة الدين والعاملة على إقامته، فعلينا إدراك واجِبنا الشَّرعيّ تجاه ما حدث.



فالحكم بما أنزل الله ثابتٌ بنَصِّ القرآن، فهو قطعيُّ في ثبوته وفي دلالته أيضاً، لذلك؛ فلا هوّادة فيه، يقول تعال:{..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ..}، والكثير من الآيات التي تخاطب عموم المسلمين والتي يُفهم منها فريضة إقامة الأمة من ينوبها في تحكيم الشرع كاملاً، والتأخّر أو التراخي في هذا الأمر يعني تعطيل الشريعة عن الوجود عمليّاً على أرض الواقع، واستمرار انقطاع الحياة الإسلامية عن المجتمع، أي؛ أن غايتنا يجب أن تكون «استئناف الحياة الإسلامية» بإقامة دولة تحكم بالإسلام، هذا هو الحلُّ وحده لتحقيق جميع ما يترتّب على الأمة، وتحريرها من براثن الكافر المستعمر من شرقها إلى غربها -ومن ضمنها فلسطين-، وتبليغها رسالة ربِّها ونشرها لهدايةِ العالمين، وإيضاح صورة الإسلام الحقيقية، في دولته ونظام حُكمه وجميع الأنظمة الأخرى المنبثقة عن عقيدته التي تحقق العدل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وهنا أقتبس كلاماً فصلاً من الوضوح والإيجاز بمكان:


"إنّ القضيّة المصيرية للمسلمين في العالم أجمع هي إعادة الحكم بما أنزل الله، عن طريق إقامة الخلافة، ونصب خليفةٍ للمسلمين يبايعُ على العمل بكتاب الله وسنة رسوله -ﷺ-، ليهدم أنظمة الكفر، ويضع أحكام الإسلام مكانها موضع التطبيق والتنفيذ، ويُحوِّل البلاد الإسلامية إلى دارِ إسلام، والمجتمع فيها إلى مجتمع إسلاميّ، ويحمل الإسلام رسالةً إلى العالم بالدعوة والجهاد.

وبتحديد القضيّة المصيرية للمسلمين يتحدد الهدف الذي يجب أن يعمل حملة الدعوة الإسلامية، كُتلاً وأحزاباً وجماعات، لتحقيقه، وبالتّالي تتحدد الطريقة التي يجب أن يسلكوها للوصول إلى تحقيق الهدف"-منهج حزب التحرير في التّغيير.



أمّا عن شكل مشروع النهضةِ هذا وما يحتويه بتفاصيله الدّقيقة وعن طريق العمل على إيجاده، فهذا ما أجاد وفصّل فيه حزب التّحرير تفصيلاً مبيناً بحيث لا يبقى هناك حائر أو عامل بغير موضعه، فمن جُملة ما وضعه هذا الحزب العريق، بفهمه المستنير:


أولاً: مشروع الدّستور لدولة الخلافة، ويتضمّن (191) مادّة مستنبطة من الشرع تشمل جميع مناحي الحياة.


ثانياً: وضّح طريقة الوصول إلى الهدف المنشود، فبعد دراسةٍ حثيثةٍ لأدلة الشرع المتعلقة بهذا الموضوع، وفهم عميق لسيرة الرسول -ﷺ-، بيّن الطريق النبوي الذي يجب اتّباعه، وأبرز معالمه وجلّاها، فهي ذات طريقة الرسول -ﷺ-، فقد تبنّاها في سيره لحمل مشروعه السّياسيّ المُنهض للأمّة، وقد سطّرها في كُتيّب منهج حزب التحرير في التغيير.


فلذلك كان على مريدي النّهضة أن يلتفّوا حوله ويعملوا معه لإقامة حكم الله في الأرض، فتعود للمسلمين نهضتهم وعزّتهم، قال الفاروق -رضي الله عنه-:"نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله".

وقال حبيبنا وقرّة أعيننا رسولنا مُحمّد -ﷺ-: .....ثُمَّ تكونُ خلافةً على منهاج النبوّة".


والحمدلله رب العالمين.


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير/ ولاية الأردن:

الأستاذ محمد أبوعمر.

     
08 من جمادى الأولى 1441
الموافق  2020/01/04م
   
     
http://www.hizb-jordan.org/