بسم الله الرحمن الرحيم




 

سلسلة نظرات استراتيجية قرآنية (1)

في ظلال أوائل سورة الروم المكية

( لماذا يتتبع حملة الدعوة الموقف الدولي )

 

إن ضعف الدولة الأولى في العالم و الصراع الناشئ بين دول الكفر الكبرى والذي يستنزف قواها و يعمل على تقهقرها أمام مشروع الاسلام العالمي الذي يسعى المسلمون إلى إقامته، أمر يفرح المسلمين المستضعفين وعلى وجه الخصوص ذلك التكتل السياسي المبدئي الذي ولد من رحمها، العامل على إنقاذها والمضحي لأجلها .


نعم .. إن كشف الصراع الناشئ بين تلك الدول الكافرة العظمى الفاعلة في الموقف الدولي و إبصار تداعياته الرامية الى التفكك الدولي ، هو أمر يفرح أمة الإسلام و يتيح لها مزاحمة هذه الدول في قيادة البشرية مجدداً من خلال أبنائها المخلصين المتكتلين على مبدأ الاسلام،  لكن الفرحة التامة هي الفرحة التي وعد الله بها عباده المخلصين بإقامة دولة الإسلام ، و التي وعد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم و صحابته الكرام عندما كانوا مستضعفين في مكة يحملون ارواحهم على أكفهم ، و عاملين لإقامة دولة الإسلام، فتشرئب أعناقهم للنصر الموعود يوماً بعد يوم ، باحثين عن أسباب التمكين المادية التي كلفهم الله تعالى بها، و هم يعملون على ايجادها ، فقد كانوا في حملهم للدعوة يرقبون الموقف الدولي آنذاك كسياسيين عالميين مبدئيين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلطالما إهتموا وتتبعوا أعمال الدول العظمى في زمنهم ، خاصة تلك الحرب الدامية التي نشأت بين الفرس و الروم أعظم دولتين حينها ، فنزل القران الكريم يذكرها في بداية سورة الروم و يلفت الأنظار اليها كحدث دولي يجب الوقوف عليه سياسياً ، فيبين اهمية تتبع الصحابة الكرام لحركة دول الكفر و يحثهم على دوام التفكير السياسي و يبين لهم شأن الاهتمام به كسياسيين مبدئيين عالميين ، لذلك و من خلال ما نزل في هذه السورة المكية العظيمة يبين أن الأمر كان قد محل إهتمامهم من قبل نزولها و زاد اهتمامهم به بعد كشف الله تعالى لهذا الحدث ، و لما له من تداعيات ايجابية على حركة حمل الدعوة و المضي بها قدماً باطمئنان لوعد الله تعالى لهم بالنصر و التمكين باقامة دولة الإسلام، فأفرحهم ذلك كثيرا و زاد حرصهم في ملاحقة الاحداث الدولية فيما بعد.


و بالنظر إلى سنة الله تعالى التي تجري على المؤمنين في حمل دعوة الاسلام ، نجد أن إرادة الله حكمت أن تتشابه الهموم و الاهتمامات بين حملة الدعوة الربانية القائمة على اساس الاسلام في كل زمان و مكان...

فالمشهد متشابه جدا بين مراقبة الصحابة رضي الله عنهم في العهد المكي زمن النبوة و بين مراقبة حملة الدعوة اليوم للموقف الدولي، بسبب تشابه الواقع و الهدف ، على اختلاف أشكاله و أساليبه و وسائله...

 

نعم فنحن على يقين أن المشهد واحد و أن النتيجة واحدة بإذن الله تعالى ،  يقول الله تعالى (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5 ).

 

فمن خلال هذه الايات الكريمة الخالدة ، كان لا بد هنا في سياق حديثنا الذي نحن بصدده أن نسلط الضوء على بعض دلالات هذه الايات الكريمة التي تخص موضوع حمل دعوة الاسلام و همومها ، فمن خلالها نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم و صحابته الكرام قد ابتهجوا لعلمهم من الله ان دولة الروم بعد بضع سنين ستتغلب على المجوس الوثنيين .

 

وأن ابتهاج النبي صلى الله عليه وسلم و صحابته الكرام لم يكن لانتصار دين صليبي كافر على مثله في الكفر . بل لأن احتدام الصراع بين أقوى دولتين آنذاك والذي بدوره سيفكك أي تكتل دولي ، و يشغلهم بالحروب التي نشبت بينهم، الامر الذي سيضعف من إمكانياتهم و يشغلهم سياسيا و يستنزف قواهم العسكرية، عن إحتمالية وقوف هذه القوى مجتمعة  لو تحالفت في وجه دولة الإسلام الفتية التي كان المسلمون يغذون الخطى لإقامتها بكل عزم و تشوق .


و ان ما يؤكد هذا المعنى في الايات ان الفرحة الحقيقة التامة والتي وعدهم الله بها هي النصر و التمكين لدولة الاسلام .  و مما يعزز هذا المعنى من خلال إنعام النظر في اللطائف العظيمة الواردة في هذه الايات الكريمة و التي تتجه إلى تأييد هذا الامر؛ ما نجده من إضافة النصر الى لفظ الجلالة الله ، فكانت الدلالة بذلك حصراً لنصر الله لرسالة الاسلام ، لأن هذه الإضافة لا تفيد الا هذا المعنى الشرعي، و لا يمكن ان يكون وصف النصر انه نصر من الله الا اذا كان نصرا لدين الله تعالى ، و ما يعزز هذا المعنى ايضا من لطائف أخرى في هذه الايات هو وصف دحر الروم للفرس او الفرس للروم بالغلبة و ليس بوصف نصر الله ، حيث يقول الله تعالى : (الم غلبت الروم) ( و هم من بعد غلبهم سيغلبون). و شتان بين غلبة الكفار على بعضهم بعضا و بين نصر الله لدينه و للمؤمنين ، و من ذلك قول الله تعالى مخاطبا المؤمنين ( ان تنصروا الله ينصركم ) ، فنصر الله هنا لا يكون الا بنصر عقيدة الاسلام ولا يفهم غير ذلك، و هذا ما يفسره سبب نزول سورة الروم في ذلك الوقت.

 

فقد نزلت هذه السورة المكية الكريمة، جوابا سياسياً غيبيا من الله تعالى يجيب عن كثير من تساؤلات و مراهنات كانت قد أشغلت الناس آنذاك و تحديداً الصحابة الكرام ، و كانت بشرى بنصر قريب للنبي صلى الله عليه وسلم و صحبه بإقامة الدولة الإسلامية ، إذ كان النبي و صحابته الكرام يرقبون الموقف الدولي و يهتمون بشأن السياسة الدولية خارج و داخل الجزيرة العربية، شأنهم بذلك شأن حملة الدعوة اليوم .


و قد كانت سورة الروم بيانا من الله تعالى كشفت من خلالها الصراع الدولي آنذاك ، فقد كان هذا الامر من الامور التي يتتبعها ويهتم بها الصحابة رضوان الله عليهم، ذلك فضلا عن الاضطلاع بأعباء حمل الدعوة و المضي قدماً لتحقيق رضوان الله تعالى .

 

فقد فرحوا لذلك و هم مستضعفون عندما علموا من الله تعالى أن الروم التي استُنزفت وهزمت امام جيش الفرس ، أنها ستغلب دولة الفرس تلك في بضع سنين بعد ذلك، لتستنزف قوى كل منهما، لتتحقق البشارة العظيمة لهم بعد ذلك في الاية الكريمة، أنهم لمنصورون في قادم الأيام و سيفرحون الفرحة الكبرى عندما تقوم دولتهم بنصر الله تعالى ( يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله و هو العزيز الرحيم ) . و قد كان ذلك بفضل الله تعالى ويجعلنا نستبشر نحن اليوم بتحقق مثل هذا النصر في قادم الأيام بإذن الله تعالى .

 

فما أشبه حمل الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بحمل الدعوة في هذه الايام، كيف لا .. و العقيدة واحدة و الفكر واحد و الطريقة واحدة و مراحل الدعوة واحدة و الغاية واحدة ، و الوعد الإلهي لا يتغير بنصر من ينصره ، و كلها تخرج من مشكاة واحدة ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .

 

( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون )

 

كتبه للمكتب الاعلامي لحزب التحرير/ ولاية الاردن

الاستاذ محمد عبدالعزيز

 

     
02 من شـعبان 1439
الموافق  2018/04/18م
   
     
http://www.hizb-jordan.org/