بسم الله الرحمن الرحيم




الخطط الإستراتيجية

بين الارتقاء مع المحافظة وبين البقاء مع الضعف والأزمة

إن أزمة الدولة والكيان السياسي الأمريكي هي بمن يسيّر هذا الكيان (الدولة العميقة)، فقوة الكيان السياسي وجوداً وبقاءً وديمومة هي مرتبطة بعوامل كثيرة جداً أهمها وأخطرها المبدئية ثم العقلية التي تحكم الكيان، هل هي عقلية سياسية أم مجرد أشخاص بالحكم بغض النظر عن قدرتهم السياسية، فمثلاً كان يحكم أمريكا في فترة النشوء والإرتقاء العالمي شخصيات سياسية مبدئية فذة، فقد تميزت بالخيال السياسي الخلاق والقوة الذهنية، والتي أستطاعت أن تنقل أمريكا من كيانات مُستعمرة مبعثرة وتجمعات سكانية إلى دولة عالمية في فترة وجيزة، بعد عملية بناء داخلي مدروسة، وحروب داخلية لبناء كيان قوي (حروب الشمال والجنوب) وتشريع دستور وتحديد السلطات ودور كل سلطة، وبناء هيكلة سياسية للكيان مع بناء شخصيات سياسية كانت متابعة للأحداث العالمية ولميزان القوى، ثم معرفة كل طرف وقدراته، وبناء إستراتيجية هيمنة عالمية خاصة، تلك المتعلقة بالمستعمر القديم وكيفية التعامل معه، وفي عقر داره بمشروع مارشال الذي كبّل أوروبا سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً والتي لا زالت تئن من قوة الإستراتيجية وبُعد نظرها وقوة تنفيذها وأدوات تنفيذها؛ التي تميزت بالفطنة والذكاء واستطاعت تنفيذ الخطط المحكمة، بحيث أصبحت زعيمة المبدأ الرأسمالي وقائدته، وفرضت مدرستها فيه عالمياً، هذه أمريكا زمن النشأة والإرتقاء والصعود من خلال المبدأ بغض النظر عن فساده، لكنه مبدأ مُنهض ولو كانت نهضة مؤقتة لفساد المبدأ - ولسنا هنا بصدد بحث الناحية الفكرية - ثم بوجود شخصيات سياسية ورجال دولة من طراز معين وعقليات فذة قادرة على بناء خطط إستراتيجية محكمة، ولديها من الأدوات التي ترتقي لتنفيذ تلك الرؤى الإستراتيجية برغم من جسامة الأحداث ووعورتها، وبالرغم من النشوء الطارئ لدولة فتية أمام قوى عالمية ذات تاريخ كبير، ولديها خبرة ومعرفة عالمية كبيرة وممارسات واستعمار وأدوات وقوات وجيوش وعملاء وأحزاب، بل وبنت عائلات في العمالة، لكن هذه الدولة الفتية خرّجت أمريكا بعقلية الباني والمسيطر والقائد السياسي صاحب النظرة العميقة والإستراتيجية العالمية والتي صدمت العالم وانتزعت الصدارة في ذهول الخصم.


واليوم تواجه أمريكا معضلات ومشاكل وأزمات تتعلق بالهيمنة فضلاً عن الإنقسام السياسي داخلياً، وتصارع الأحزاب على حساب كيان يئن من الأزمات، فماذا أخرجت لنا تلك الدولة العميقة الآن مقارنة بالسابق، وما أنتجت من رؤية إستراتيجية، وما هي الأدوات للتنفيد ومدى قدرتها على تنفيذ خطط محكمة إن وجدت؟


أولاً: ماذا أخرجت وماذا قدمت الدولة العميقة حالياً؟
يبدو لي أنها لم تنتج خططا جديدة؛ بل مجرد محاكاة واستخراج للخطط القديمة، والتي كانت لواقع معين وظروف معينة، مع العلم أن أي خطة لا توضع من عقلية سياسية بعيداً عن دراسة الواقع والقوى وعوامل القوة والضعف، أي سبر الواقع ومعرفته معرفة تفصيلية بكل جوانبه، ثم معرفة فيما يتعلق بالقوى الأخرى وواقعها وإمكانياتها ومواطن القوة والضعف، وبعد فهم الواقع تأتي العقلية السياسية لبناء الخطط الاستراتيجية التي تلائم هذا الظرف السياسي، ثم وضع الأساليب والوسائل وإختيار الأدوات التي تكون قادرة على التنفيذ، ولاتؤخذ الخطط من مُنظَر لا علاقة له بالواقع؛ لأن الخطط أصلاً هي دراسة لواقع معين.


وعودة لواقع الدولة العميقة، هل أنتجت خططاً أم إستعارت خططاً بُنيت لفترة معينة مع إختلاف الظروف والقوى والواقع؟ وهل أختارت من الأدوات من يستطيع تحقيق تلك الخطط ويحقق تلك الرؤى الإستراتيجية أم أحضرت أدوات ضعيفة هزيلة جعلت من مواطن القوة ضعفاً؟ و هل كانت نظرتها قاصرة تستجلب الغنائم السريعة بعيداً عن الأثر السيء لنتائج تلك النظرة القاصرة على المدى البعيد، ولعل بعضهم يظن أن هذا الكلام مرسلاً وطموحاً وليس واقعاً حقيقاً تاريخياً وحاضراً، وحتى لا يكون الكلام مطلقاً سوف نُنزَل على أرض الواقع دراسة ومقارنة للتدليل على صحة الرأي؛ فمثلاً نذكر خطاب نيكسون ففي ليلة الأحد 15 آب 1971م ظهر الرئيس نيكسون على شاشة التلفزيون بعد خلوة استغرقت 48 ساعة في "كامب دافيد" ليقول للأمريكيين إن الدفاع عن الدولار ومكافحة البطالة وتحسين وضع الميزان التجاري وميزان المدفوعات؛ هي كلها عناصر أساسية لسياسة إقتصادية جديدة الغاية منها حفظ مركز الولايات المتحدة كأول دولة إقتصادية في العالم ثم أردف قائلاً: "هل سيبقى هذا البلد القوة الإقتصادية الأولى في هذا العالم؟ أم أننا سنستسلم ونقبل بأن نكون الدولة الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ وهل سنحافظ على القوة التي جعلت الحرية والسلام ممكنين في العالم أم أننا سنتقهقر؟ كل ذلك رهن بروح المناقشة التي ستظهرونها، يجب علينا أن نعيد لهذا البلد الإيمان الذي ساعدنا على بناء أمة كبيرة في الماضي، والذي سيساعدنا على أن نقولب عالم المستقبل " بهذه الكلمات أعلن الرئيس الأمريكي سياسته الإقتصادية لمواجهة الأزمة النقدية العارمة التي كادت أن تقصم ظهر الإقتصاد الغربي برمته وليس الأمريكي فقط، فكانت خطة نيكسون لطمةً للعالم الحر قلبت مقاييس التجارة الدولية، وزرعت الفوضى في بورصات العالم الغربية، ثم جعلت عملات الدول الصناعية تتراقص ودخلت في حروب سياسية مع حلفائها قبل أعدائها مع بريطانيا وفرنسا ديغول، وألغت الإرتباط بين الدولار والذهب بقرار جريء جداً في العام 1971م بعد أن أستمر العمل به حوالي 30 عاماً، وهي أكبر عملية سرقة في تاريخ العالم حيث كان كل 35 دولاراً تعادل أونصة ذهب تباع وتشترى على هذا الأساس، وعندها أصبح ثمن أونصة الذهب 350 دولاراً بانخفاض قيمة الدولار 9 مرات، وكان من أهم نتائج فك إرتباط الدولار بالذهب في العام 1971م أن أمريكا أصبحت حرة طليقة في طباعة ما تشاء من الدولارات، وأدخلت الدولار في حركة الإقتصاد الرسمي والإقتصاد الحقيقي العالمي، ثم أصدرت أمريكا أوامرها لأكثر الدول تصديراً للنفط ليتم تداول النفط بالدولار، هذا القرار التاريخي للرئيس نيكسون لم يكن عبثياً، حيث اتضح في أوائل العام 1971م - بحسب تقرير لجنة فرعية تابعة للكونغرس - بأن قيمة الدولار الفعلية أقل من قيمة الدولار الرسمية، و هذا يعني إنخفاض القيمة الشرائية للدولار، وبالتالي إرتفاع أسعار السلع والخدمات، وهذا بعينه التضخم المالي.


لذلك جاء قرار نيكسون للتحرر من إرتباط الدولار بالذهب من جهة، ومن جهة أخرى أرسى دولار أمريكا عملة عالمية بلا منازع ودون أي دور للذهب، بحيث تتمكن من طرح أي كمية من الدولارات المكشوفة (دون غطاء نقدي) في الأسواق لتغطية مشكلتي السيولة والعجز، حيث تصبح قيمة تلك الأوراق النقدية الإلزامية نابعة من قوة الاقتصاد الأمريكي، وكذلك للعب دور عالمي لأمريكا في النظام النقدي الدولي بسبب موقعها كدولة أولى في العالم، صحيح أن لهذه الإستراتيجية مخاطر كبيرة ومؤلمة لكنها رحَلت المشكلة لعقود طويلة ومسحت كل آثار النظام النقدي القديم.


إن الأزمات في أمريكا سواء أكانت مبدئية أم مالية أم إقتصادية أم سياسية هي أزمات حقيقية وعميقة، وذلك لسبب بسيط وهو أن المبدأ الرأسمالي مبدأ فاسد يحمل بذور فنائه أنتجته عقلية شريرة أرادت التحكم بالعالم لمصلحة فئة قليلة، وعندما اصطدمت برفض العقل لها ومخالفة الفطرة البشرية لمبدأ حيواني لا إنساني؛ مالت عن البحث الصحيح إلى أمر آخر لتخرج بما أرادت تلك العقليات العفنة من حلول وسطية، وكنتيجة حتمية لفساد المبدأ كانت نهضته نهضة مؤقتة حتماً، فكيف إذا أضفنا لهذا العامل المهم ما قامت به أمريكا من وأد المبدأ الذي من خلاله نهضت به وتزعمت العالم؟ وكيف اذا أضفنا لها ضعف العقلية السياسية وفقر التربة السياسية .


إن العقليات الحالية جعلت الكيان ومصالحه هو الأساس والمبدأ تبع له وليس العكس بأن يكون المبدأ هو الأساس والمسير للكيان، وثمة عامل آخر وهو نضوب العقليات والوسط السياسي نتيجة فقر التربة السياسية؛ نتيجة فساد الفئة الحاكمة التي ما عادت تؤمن بالمبدأ بل تؤمن بمصلحة آنية قريبة على حساب المبدأ ، فأصبحت تُحكمالولايات المتحدة الأمريكية تُحكم من شخصية كترامب مثلاً بدلا من نكسون الذي عايش تلك الأزمات وخرجت منها أمريكا بخطة إستراتيجية لا تخطر على بال أحد بفصل الدولارعن القاعدة الذهبية وربط العالم بالدولار، والذي جعل أمريكا تنقل إشكالية الهيمنة التي تحدث عنها نيكسون لعقود قادمة وربطت العالم بتبعية جعلت من الدولار عملة عالمية، بجعل الكل يدافع عن مصدر قوة أمريكا، ولعل المفارقة بين فترة نيكسون وترامب من خلال تشابه الظروف السياسية والأزمات؛ جعلت من الدولة العميقة أن تخرج بفكرة جديدة وخطيرة فلم تعالج إدارة نيكسون المظاهر بل وضعت استراتيجية بعيدة المدى، وأبعدت الخطر الداهم، أما إدارة ترامب فتعالج المظاهر فقط بعيداً عن خطة كتلك الخطة زمن نيكسون بأسلوب بلطجي وأدوات ضعيفة جداً، فأين خطة الإدارة الأمريكية زمن نيكسون عن الحالية؟ وأين شخصية نيكسون عن شخصية ترامب؟ أنها مفارقة عجبيبة جداً!


إن السبب الرئيسي في حقيقة الأزمة اليوم وأمس وغداً هي في نفس النظام العالمي للنقد الذي يسيرعليه منذ اتفاقية "بريتون وودز" المذكورة منذ الحرب العالمية الثانية؛ الذي نتج عنه ربط عملات العالم بالدولار الأمريكي الذي تعرض ويتعرض دائماً للهزات مما جعل تلك العملات تحت رحمة زعيمة الإستعمار الغربي أمريكا، ولم تخرج الدولة العميقة حالياً بحل ولو مؤقت يؤخر ويبطئ السقوط والتراجع ولو لفترة بل زادت العقد وأصبح وجود ترامب وإدارته معضلة.


ثانياً: ما الأسباب المباشرة لهذه الأزمة في الكيان الأمريكي؟
عدة أمور سببت عجزاً كبيراً في ميزان المدفوعات الأمريكي ورفع سقف الدين، وهذه الأمور هي:-
1- حرب العراق وأفغانستان، والتدخل العسكري المباشر ودور الشرطي العالمي، والمشكلة أن الكيان الأمريكي هو من تحمَل نفقات الحروب ذات الأرقام الفلكية، وكانت غنائم الحروب لمصلحة رؤوس المال وليس للكيان.

2- حجم صرف المساعدات للدول الموالية لها كسباً لتاييدها مع ضعف المردود المالي، بخلاف بريطانيا التي استفادت ولا زالت برغم ضعفها لكن بقيت حنكتها السياسية ومكرها الخبيث بعيداً عن البلطجة.

3- بناء المزيد من القواعد الدولية التي أنفقت عليها مبالغ طائلة في شتى أنحاء العالم، وذلك دعماً لموقفها العسكري من خلال الحلف الأطلسي والقواعد في العراق وأفغانستان واليابان.

4- الإستثمارات الخارجية وخروج الشركات الأمريكية بغية الربح الكبير، حيث خسر الكيان الأمريكي الضرائب وتشغيل اليد العاملة، وأدى في بعض الدول لزيادة قوة كيانها الأمر الذي تحاول إدارة ترامب إلزام وإغراء الشركات الكبرى بالعودة للوطن .

5- إعادة التفكير بالإنفاق على الفضاء وأثره على الإقتصاد الأمريكي، صحيح أنه يراد منه اضعاف روسيا وإدخالها في حرب وهمية لا يستطيع اقتصادها تحملها، لكنها في المقابل زادت من مبالغ الانفاق على الفضاء على حساب الكيان الأمريكي.

6- الطمع والجشع والإنفاق الهائل للشعب الأمريكي والولايات الامريكية.

7- عدم وجود رقابة عالمية قادرة على لجم طباعة الدولار ورفع سقف الدين الأمريكي، ونتيجة غطرستها جعلتها مسألة داخلية تحكمها مسائل التضخم وغلاء الأسعار والتي يمكن التعامل معها سياسياً، فهذه الإنفاقات الموسعة في خارج أمريكا للدولار العملة التي تقوم عليها سائر العملات دون أن يفطن العالم إلى ضرورة وجود رقابة دولية عليها، ودون أن تتحمل أمريكا عبئاً مالياً فورياً وقت إنفاقها سوى قيمة طباعتها؛ أى أنها في الواقع تعتبر مقترضة من الدول لهذه الأموال ما دامت الدول تحتفظ بالدولار في خزائنها كالصين مثلاً صاحبة أعلى دين خارجي على أمريكا، والتي وجدت نفسها ضحية له، وأنها مضطره إلى مساندة أمريكا حتى لا تواجه كارثة داخلية نتيجة الكم الهائل من الدولار لديها.


إذاً إدارة ترامب تتعامل مع المظاهر من حيث الدخول بحروب تجارية وإعادة النظر بالاتفاقيات، وإلزام الشركات بالعودة، وإلزام الدول الأوروبية برفع نسبة المساهمة في الحلف الأطلسي، وعودة الجيش الأمريكي، والتقليل من الإنتشار الدولي، وتقليل المساهمات والمساعدات وربطها بشروط سياسية، وإلزام العملاء بالدفع، والشراء من الأسلحة الأمريكية فقط...إلخ، بخلاف الاستراتيجيات القديمة التي أنتجتها عقول فذة و نفذتها عقول سياسية. كل هذه الأمور جعلتها تفكر بعقلية الإعتماد على الأدوات أكثر من غيرها، وهي خطط دفاعية وليست خطط ارتقاء و صعود وبناء، ومعلومٌ أن هذه الخطط - حتى وإن كانت استراتيجية - هي خطط البقاء على ضعف، مع إضعاف الآخر وليست خطط إرتقاء وصعود.


إن العجز في الميزانية الفدرالية الأمريكية يدل على عمق الأزمة التي تعيشها الرأسمالية الأمريكية داخل الولايات المتحدة من جراء إنقسام المجتمع الامريكي على نفسه وعدم قدرته على الإتفاق على الاولويات القومية، وبالتالي عدم الإتفاق على كيفية توزيع الدخل نتيجة الوضع السياسي المتناقض الذى تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن فريقاً من فئات المجتمع الامريكي ومراكز القوة والمال فيه ترى أن الأولوية يجب أن تكون لدعم التسلح والإنفاق العسكري الذى يضمن للولايات المتحدة المركز الأقوى في العالم، وهذه النقطة كانت ولا زالت وبالذات مع إدارة ترامب في قمة الأولويات بالرغم من أنها لا تحقق انتهاء الأزمات بل قامت بترحيلها، وهناك فريق آخر من فئات المجتمع يرى أن الأولوية يجب أن تكون في دعم المصالح الحيوية للشعب من مرافق الصحة والتعليم وتنقية البيئة ومحاربه الفقر والضمانات الإجتماعية. ولما كانت إيرادات الحكومة مما تجمعه من ضرائب وإيرادات أخرى غير كافية للإنفاق على هذين المجالين كما يرغب الفريقان؛ فان الكونغرس يتوصل كل سنة إلى مساومة يرضي بها الطرفان، وبشكل يكون حجم المصروفات أكبر من حجم الضرائب والواردات فيحدث العجز ويرتفع سقف الدين إلى أرقام فلكية .


ولما جاء ريغان للحكم وكان ممثلاً للفريق الأول انصب همه الأول على جعل أمريكا في المركز الأقوى بعد أن أضعفها كارتر بسياسته، فزاد من الإنفاق على التسلح زيادة كبيرة، وفي نفس الوقت خَفف من الضرائب حتى ينتعش النمو الاقتصادي فأدت سياسته هذه التي زاد فيها من الانفاق، وقلل من الضرائب على زيادة العجز في الميزانية زيادة كبيرة وصلت إلى أرقام خيالية، وكان يلجأ لتغطية العجز بالاقتراض من الخارج عن طريق رفع أسعار الفائدة حتى تتدفق الأموال من الخارج إلى الولايات المتحدة.


لقد طالبت هذه المراكز الإقتصادية قديماً وحديثاً، كما طالب الاقتصاديون الحكومة الأمريكية أن تقلص عجز ميزانيتها وعجز ميزانها التجاري عن طريق الاقلال في الانفاق على التسلح وعن طريق زيادة الضرائب، ورفع سعر الفائدة حتى تحول دون حصول كارثة، غير أن إدارة ريغان لم تستجب لهذه المطالبات، ولم تظهر الرغبة الجدية في معالجة ذلك العجز الفظيع، مما أوجد فقد الثقة بالاقتصاد الأمريكي، ولا زالت تتسع تلك الفجوة حتى داخل أمريكا فضلا عن اتساعها عالمياً.


وأخيراً ولتلافي مثل هذه الكوارث وهذا الوضع الإقتصادي المضطرب للحيلولة دون تحكَم أمريكا بإقتصاد العالم وتجارته ونقده؛ يجب إبطال وظيفة الدولار العالمية والتخلي عن نظام النقد الورقي الإلزامي والعودة إلى نظام النقد الذهبي والفضي وجعله أساس النقد في العالم، وإبطال الفوائد الربوية إبطالا تاماً، وتحويل الشركات الرأسمالية المساهمة إلى شركات على أساس النظام الإسلامي، وبناء اقتصاد حقيقي وليس وهمي، وبذلك تستقر الأوضاع الإقتصادية في العالم، وتنشط التجارة الخارجية، وتنتهي المضاربات المالية، وتلغى الأسواق المالية، ويحال بين أمريكا وبين التحكم في اقتصاد العالم وتجارته ونقده.


إن سياسية البلطجة الأمريكية (سياسية الكابوي) لن تجد نفعا مع الزمن ولن تحقق بقاء لأمريكا ولا ديمومة و إن الاعتراف بالضعف من قبل الدولة العميقة هو بداية الطريق الصحيح للعودة ولكن القوم بلغ بهم الأمر أبعد من هذا فلقد قالوا في مرحلة ما لقد وصلنا إلى القمة ونهاية التاريخ وهذه التفكير يعني ببساطة أن فكرة الارتقاء والصعود لم تعد في تفكيرهم ولا خططهم بل أقصى ما يفكرون به المحافظة على الوضع القائم مع أن البحث حول قدرة الكيان السياسي هي متغيرة وليست ثابتة تنتقل من حال لآخر ومن قوة لضعف ومن ضعف لقوة ، وكذلك اغفال جانب القوى الأخرى قوة وضعفا وصعودا وهي متغيرة كذلك ، فمثلا لقد حاولت أمريكا الإنفراد العالمي وأعلنت نظاما عالميا جديدا في زمن بوش الأب وهاجمت أوروبا وحاولت تنحيتها كليا لكنها لم تستطع الإنفراد، فعادت مع ادارة كلنتون إلى الإعتراف بالحلفاء والتعاون مع الاوروبيين من خلال إستراتيجية المشاركة ولكنها لم تنحج ثم عادت إلى المحاولة مرة أخرى زمن بوش الصغير وهاجمت أوروبا وصدرت تصريحات خطيرة تصف أوروبا بالعجوز ولكنها أيضا لم تنحج في تحقيق مرادها فعادت مع إدارة أوباما إلى محاولة الإنفراد بالإعتراف بالآخريين ودورهم ولكنه دور في التنفيذ بدون القيادة (استراتيجية القيادة من الخلف ) لكنه أدرك في نهاية حكمه أن أوروبا لم تحقق مراده وندم على ما قامت به أمريكا في ليبيا بالتعاون مع الأوروبيين وخرج علينا قائلا: "أحد الأسباب التي تجعلني أركز على أخذ القرار من أطراف متعددة في المناطق التي لا نضع بها مصالحنا المباشرة على الرهان هو أن التعددية تنظم الغطرسة"، ثم ورد في حديثه مع أتلانتك: لكن هذه ليست مشكلة مصالح أمريكا التي تجعل من المنطقي المشاركة الأمريكية المنفردة بالضربات ضد القذافي. في تلك النقطة، كان هناك أوروبا وأعضاء من الخليج يحتقرون القذافي، أو معنيون من الناحية الإنسانية ويطالبون بالتدخل. لكن ما تم الاعتياد عليه خلال العقود الأخيرة في هذه الحالات هو ناس يدفعوننا للتدخل ثم يظهرون رفضا لإبداء أي مشاركة لاحقا"، قاطعته: "راكبون مجانيون؟"، فأجابني: "راكبون مجانيون".

وبرغم هذا التعدد في الاستراتيجيات والخطط في زمن قصير والإنتقال من خطة إلى أخرى يدلل بشكل كبير على حجم التحدي الكبير الذي تواجهه الدولة الأمريكية مع رفض وتصاعد القوى الأخرى وكذلك فإن هذه الخطط ليست مضمونة النتائج بشكل قطعي بل ثبت لهم إخفاق بعضها بل كان لبعضها آثار سلبية على الكيان الأمريكي والنظرة لها عالميا فإذا لم تقرن هذه الخطط بمعالحات كاملة تعالج الآثار بنفس الوقت مع وجود خطط أخرى بديلة مع وجود عقلية سياسية مرهفة ومتابعة بعمق كبير مع إختيار أدوات للتنفيذ تكون قادرة على تنفيذ خطط محكمة فمثلا الصين كانت ممن استخدمتها أمريكا في إحتواء الأتحاد السوفيتي كورقة آنذاك وعملت على تقويتها أو غضت النظر عنها بسبب التركيز النظر على الأتحاد السوفييتي وغفلت عن صعود الصين بحيث اصبحت اليوم بحاجة إلى استراتيجية لإحتواء الصين نتيجة عدم معالجة المخاوف من صعود الأدوات نتيجة تقويتها ضد طرف معين ولكنها لم تضع استراتيجية لمعالجة تلك الآثار فأصبحت اليوم تريد إحتواء الصين ، فضلاً عن التغيير في الموقف الدولي وصعود قوى تريد لها دورا يلائم مكانتها وتاريخها كمثل تطلعات ألمانيا حاليا .

وأخيرا ليس معنى المقال ان أمريكا سقطت وانتهت بل لا زالت هي الدولة الأولى عالميا مع الفارق النوعي والعددي بينها وبين من خلفها ، ولكن هل ستبقى في ظل الأوضاع الحالية ضفعا فيها وأزمات مع صعود أخرى هل ستبقى الدولة الاولى وإلى متى ؟


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير- ولاية الأردن
الأستاذ: حسن حمدان


 

     
11 من رجب 1440
الموافق  2019/03/17م
   
     
http://www.hizb-jordan.org/