قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). (المائدة 101) قَالَ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: هَذَا تَأْدِيبٌ مِنْ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَهْيٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء مِمَّا لَا فَائِدَة لَهُمْ فِي السُّؤَال وَالتَّنْقِيب عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ أُظْهِرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْأُمُور رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسلم قَالَ: "لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ". وَقَالَ الْبُخَارِيّ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلهَا قَطُّ وَقَالَ فِيهَا: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا". قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: فُلَانٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء).
وقَالَ اِبْن جَرِير: حَدَّثَنَا بِشْر، حَدَّثَنَا يَزِيد، حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَة قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَّ أَنَس بْن مَالِك حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ ذَات يَوْم فَصَعِدَ الْمِنْبَر فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْم عَنْ شَيْء إِلَّا بَيَّنْته لَكُمْ" فَأَشْفَقَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم آله وسلم أَنْ يَكُون بَيْن يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، فَجَعَلْتُ لَا أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إِلَّا وَجَدْتُ كُلًّا لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ يُلَاحِي فَيُدْعَى إِلَى غَيْر أَبِيهِ' فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوك حُذَافَة" قَالَ: ثُمَّ قَامَ عُمَرُ، أَوْ قَالَ فَأَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، عَائِذًا بِاَللَّهِ، أَوْ قَالَ أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ الْفِتَن قَالَ: وَقَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَرَ فِي الْخَيْر وَالشَّرّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، صُوِّرَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِط". قَالَ الزُّهْرِيّ: فَقَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَة مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ قَطُّ أَكُنْتَ تَأْمَنَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى رُءُوس النَّاسِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ.
وَقَالَ اِبْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحَارِث حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا قَيْس عَنْ أَبِي حُصَيْن عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ه وسلم وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَارٌّ وَجْهُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَر فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُل فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: "فِي النَّار". فَقَامَ آخَر فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوك حُذَافَة"، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب فَقَالَ: رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وسلم نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُول اللَّه حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْك، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا، قَالَ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
ثُمَّ قَالَ: (عَفَا اللَّه عَنْهَا) أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ قَبْل ذَلِكَ. (وَاَللَّه غَفُور حَلِيم). وَقِيلَ: الْمُرَاد بِقَوْلِهِ (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِين يُنَزَّل الْقُرْآن تُبْدَ لَكُمْ) أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء تَسْتَأْنِفُونَ السُّؤَال عَنْهَا، فَلَعَلَّهُ قَدْ يُنَزَّل بِسَبَبِ سُؤَالكُمْ تَشْدِيد أَوْ تَضْيِيق وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: "أَعْظَم الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ يُحَرَّم، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْل مَسْأَلَته".
وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآن بِهَا مُجْمَلَةً فَسَأَلْتُمْ عَنْ بَيَانِهَا بُيِّنَتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهَا. (عَفَا اللَّه عَنْهَا) أَيْ مَا لَمْ يَذْكُرُهُ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ، فَاسْكُتُوا أَنْتُمْ عَنْهَا، كَمَا سَكَتَ عَنْهَا، وَفِي الصَّحِيح عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسلم أَنَّهُ قَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ". وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: "إِنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِض فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاء فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاء رَحْمَة بِكُمْ غَيْر نِسْيَان فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا".
لَقَد كَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مُلْتَزِمِينَ بِأَحْكَامِ شَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمُتَقَيِّدِينَ بِـمَبَادِئِ الإِسلَامِ، وَمُطِيعِينَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ، الَّذِينَ يَحْكُمُونَهُمْ بِنِظَامِ الحُكْمِ الَّذِي أَتَانَا مِنْ عِندِ خَالِقِنَا وَهُوَ اللهُ تَعَالَى، ذَلِكَ النِّظَامُ الَّذِي لَا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فكانوا لَا يَتَصَرَّفُونَ أَيَّ تَصَرُّفٍ، وَلَا يَسْلُكُونَ أَيَّ سُلُوكٍ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ الشَّرعِيِّ مِنَ الكِتَابِ، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ إِجْمَاعِ الصحابة رضي الله عنهم، فَصَلُحَ أَمْرُهُمْ، وَحَسُنَ حَالُهُمْ، وَعَزُّوا وَسَادُوا، وانتَقَلُوا مِنْ عِزٍّ إِلَى عِزٍّ، وَمِنْ نَصْرٍ إِلَى نَصْرٍ!!
وَاليَومُ فِي زَمَنِ الحُكَّامِ الرُّوَيبِضَاتِ فِي ظِلِّ أَنظِمَةِ الضِّرَارِ الرَّأسْمَالِيَّةِ، صَارَ الـمُسلِمُونَ يَسأَلُونَ عَمَّا يَلْزَمُ وَعَمَّا لَا يَلزَمُ مِنْ أُمُورِ الحَيَاةِ، وَكَثُرَ الـمُفْتُونَ بِغَيرِ عِلْمٍ، وَغَدَا حَالُنَا كَمَا وَصَفَ نَبِيُّنَا ﷺ: حَيثُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". (رواه البخاري) وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاه البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ".
نَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ أَن تُبْرِمَ لِأُمَّةِ الإِسلَامِ أَمْرَ رُشْدٍ، تُعِزُّ فِيهِ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ فِيهِ الكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَأَهْلَهُ، وَتُقَامُ فِيهِ دَولَةُ الإِسلَامِ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم. اللَّهُمَّ وَاكْتُبْ لَنَا مِيثَاقَ عِزَّةٍ وَتَمْكِينٍ، تُمَكِّنُ لَنَا فِيهِ دِينَنَا الَّذِي ارْتَضَيْتَ لَنَا، وَتُبَدِّلَنَا مِنْ بَعدِ خَوْفِنَا أَمْنَا، وَاجْعَلْنَا أَهْلًا لِنَصْرِكَ وَتَأيِيدِكَ، وَارْزُقْنَا مُبَايَعَةَ خَلِيفَةٍ يَكُونُ مِمَّنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ، وَاتَّبَعَ فِي الحَقِّ رِضَاكَ ... آمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ!!
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن
الاستاذ/ محمد النادي
|