كانت القسطنطينية، عاصمة هرقل، التي بشر رسول الله ﷺ بفتحها، والتي بناها قسطنطين الأول - أحد أباطرة بيزنطة سنة 330م - وسمّاها باسمه، وجعلها عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، إحدى أعظم دولتين من الدول النصرانية، وقد استمرَّت الإمبراطورية البيزنطية أكثر من ألف عام من الزمن، فبدايتها في القرن الرابع ونهايتها في القرن الرابع عشر.
فبعد معارك ونزاعات طويلة مع كثير من الأمم والحضارات سقطت الإمبراطورية البيزنطية بعد سقوط عاصمتها القسطنطينية التي عجزتْ عن فتحها جحافل الشرق والغرب حتَّى جاء القائد العثماني محمد الفاتح وفتحها عام 1453م.
ونظرة إلى وضع الأمة الإسلامية قبل حوالي قرنين من فتح القسطنطينية تُري أنهم كانوا يعيشون أوضاعاً سيئة داخلياً وخارجياً، فكان اجتياح المغول للخلافة واستباحتهم لعاصمة الخلافة بغداد وقتلهم الخليفة نفسه وعشرات الآلاف من المسلمين، وكانت الحملات الصليبية قبل ذلك والتي أذاقت المسلمين الويلات إلى أن قيض الله من أنقذ الأمة من أمثال قطز وبيبرس وصلاح الدين، وبقيت على هذا الحال المتأزم إلى أن آلت الخلافة إلى العثمانيين، وقام على رفعتها واستعادة مكانتها رجال وأي رجال، كان منهم السلطان محمد الثاني أو محمد الفاتح الذي أجرى الله على يديه فتح القسطنطينية فحقق بذلك بشارة الرسول ﷺ في قوله: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
لم تقتصر بشارات النبي ﷺ على فتح القسطنطينية، فقد بشرنا ﷺ ببشارات ثلاث أخرى، وهي: فتح روما، وعودة الخلافة على منهاج النبوة، وقتال يهود وهزيمتهم شر هزيمة. والرسول ﷺ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولم تكن بشارات الرسول ﷺ أي بشارات، بل إن إنعام النظر فيها يُري أنها بشارات تحتاجها الأمة الإسلامية وهي في أحلك أحوالها، وهي تتلمس طريقها للانعتاق من ذل أعدائها وهم يتآمرون عليها، لتكون خير دافع وحافز للخروج من أزماتها وعودتها قائدة للعالم، لتقوم بمهمتها الأساسية في حمل الدعوة ونشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
فلم يكن فتح القسطنطينية العظيم على يد الفاتح، نِعم القائد وكان جنده نعم الجند، هو مجرد الفتح فحسب، ولكن كانت لما بعده آثاره العظيمة من التمكين والسيادة، فقد مثل رمزاً مهماً للعلاقات الدولية في تاريخ الدولة العثمانية، وزاد من قيمته السياسية أنه محا رسمياً الإمبراطورية البيزنطية العدوة من الخريطة السياسية بعد عمر طال أكثر من ألف ومائة عام، وأرسى عملياً خارطة جديدة في السياسة الدولية، وأعاد مكانة الدولة الإسلامية كدولة أولى في العالم، لها ثقلها السياسي في الحروب والنزاعات وكما في السلم أو ما يسمى بالتأثير السياسي والنفوذ الدبلوماسي لصراعات القوى على الساحة الدولية.
وثبّت السلطان الفاتح أقدامه في اليونان، وتوسع شرقاً، وطبّق نظاماً حازماً للسيطرة على هذه المناطق، وبهذا ثبّتت الدولة العثمانية بنهاية عصره نفسها على اعتبارها القوة الدولية العظمى أمام إمبراطوريات ودول غربية وشرقية أقل منها تنظيماً وتماسكاً من الناحية السياسية والعسكرية. ومهّد السلطان محمد الطريقَ أمام الدولة الإسلامية من أجل أن تلعب دور القوة العظمى الحقيقية في أوروبا، لتصبح مصدر الخطر الكبير على الهوية الأوروبية المتصاعدة.
إن فتح القسطنطينية كانت له آثاره السياسية الأخرى، إذ سقط مركز الكنيسة الأرثوذكسية في العالم النصراني، وبمجرد أن دخل السلطان المدينة حوّل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد، ومن أهم النتائج على المستوى الدولي سيطرة العثمانيين على أحد أهم شرايين التجارة الدولية بين الشرق والغرب سيطرة كاملة، فقد كان فتح القسطنطينية عظيماً بتحقيق بشرى الرسول ﷺ، وكان عظيماً في آثاره السياسية والعسكرية فتوالت فتوحات الدولة العثمانية حتى وصلوا إلى أسوار فيَنَّا وجنوب فرنسا، وامتدت الخلافة لقرون عدة متربعة على عرش الدولة الأولى في العالم، يحسب لها القاصي والداني ألف حساب.
ولا أدل على ذلك من هذه الصور التاريخية المشرفة لتلك الحقبة الزمنية الطويلة لهذه الدولة العظيمة التي تدلل على عظمتها ومكانتها التي تبوأتها بعد فتح القسطنطينية:
الموقف الأول: أن فرنسا عندما أُسِر ملكها فرانسوا الأول في بعض حروبها في أوروبا (معركة بافيا)، شعرت أنها أهينت بأسر مليكها، فلجأت إلى دولة الخـلافة العثمانية، وأرسلت رسولاً باسم ملك فرنسا في 1525/12/6م يستغيث بالدولة الإسلامية، فقابل الرسولُ الخليفةَ العثماني سليمان القانوني، فأجاب الخليفة استغاثته، وهكذا كان، فقد استعملت دولة الخـلافة ثقلها الدولي، وقوتها العسكرية في إغاثة ملك فرنسا والمساهمة الفاعلة في فك أسره.
الموقف الثاني: خاضت دولة الخلافة العثمانية حرباً ضد الولايات المتحدة، خلال الفترة من 1801 إلى 1804م، انتهت بهزيمة الأمريكان وإذلالهم في أول حرب لهم خارج حدود بلادهم، وذلك بعد رفضهم دفع الضريبة للحاكم العثماني يوسف قرة مانلي نظير دخول الأسطول الأمريكي إلى البحر المتوسط، وأدت هذه الهزيمة بأمريكا إلى توقيع اتفاقية مذلة لها كتبت بغير لغتها مع ولاة تونس وطرابلس والجزائر والمغرب، وتجد إلى اليوم وبعد إسقاط الخلافة عام 1924م، تجد في نشيد البحرية الأمريكية المتبجح والذي يقول مطلعه "من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس نحن نحارب معارك بلادنا في الجو والأرض والبحر".
وموقف ثالث آخر مسطر في أرشيف مجلس العموم البريطاني يدل على أنفة دولة الخلافة، وهو رد السلطان العثماني على عرض بريطانيا مساعدة خبيثة لقواتها العسكرية البحرية في نزاع الدولة العثمانية مع روسيا عام 1792م، وجاء ذلك في رسالة من الصدر الأعظم للسفير البريطاني قرئت في مجلس العموم: (العثمانيون لا يقيمون أي علاقة مع ملككم ولا بلدكم، ونحن لم نسعَ قط لنصيحتكم، ولا تدخلكم ولا حتى صداقتكم... ولم يخطر ببال السلطان يوماً أن تطأ قدم جندي بريطاني مياه البحر المتوسط... فلأي سبب تقدمون عرضكم بالتوسط نيابة عنا لدى روسيا؟ إذا كنت ترغب في البقاء هنا كجاسوس، أو كما تطلق على نفسك سفيراً لملككم، فيمكنك أن تعيش مع نظرائك من الدول النصرانية الأخرى ذليلاً في حدود الكياسة والأدب، ولكننا لا نريد مساعدتكم لا في البر ولا في البحر ولا نريد مشورتكم ولا وساطتكم).
وأخيراً نأتي على اقتباس من كلمة ألقتها المدير العام التنفيذي لشركة هيولت باكرد آنذاك كارلي فيورينا، في مؤتمرها العالمي للمديرين بالعالم وذلك في 2001/11/26. وهي فيما بعد مرشحة الرئاسة الأمريكية في عهد ترامب، ولربما كان لتوقيت كلمتها أهمية كبيرة من حيث إنه أتى في أعقاب هجمات أيلول/سـبتمبر 2001، جاء فيها: "لقد كان هناك حضارة من أعظم الحضارات على وجه الأرض، فقد كانت قادرة على بناء دولة عظيمة امتدت من المحيط إلى المحيط، ومن المناطق الشمالية الباردة إلى المناطق الاستوائية والصحاري. عاش تحت سلطانها مئات الملايين من الناس من أصول وعرقيات ومذاهب مختلفة.
أصبحت إحدى لغاتها لغة عالمية في معظم أرجاء المعمورة، قربت المسافات بين سكان المئات من البلاد، وتشكلت جيوشها من شعوب من مختلف القوميات، ووفرت قوتها العسكرية الحماية ودرجة من الاستقرار والازدهار لم يشهده العالم من قبل، وامتدت الحركة التجارية لهذه الحضارة من أمريكا اللاتينية وحتى الصين شاملة كل بقعة بينهما.
عندما كانت الأمم الأخرى تتوجس من الفكر والأفكار، كانت هذه الحضارة تزدهر وتعيش بها وتبقيها حية، وعندما كانت الرقابة الإقصائية تهدد بمحو المعارف من الحضارات القديمة، حافظت هذه الحضارة على المعرفة وأبقتها حية ونقلتها لبقية الأمم.
قد يتمتع عالمنا الغربي اليوم بكثير من هذه السمات... لكن الحضارة التي أتكلم عنها الآن كانت هي الحضارة الإسلامية في العالم الإسلامي من عام 800 إلى عام 1600م، والتي كانت تشمل أيضا الدولة العثمانية، وحاضرة بغداد ودمشق ومصر وحكاماً متنورين أمثال سليمان القانوني". انتهى الاقتباس.
لقد وعد الإسلام بانتصارات وإنجازات وفتوحات بعينها، ولم تتحقق بعد، وستتحقق بإذن الله تعالى، فكما تحقق الوعد بفتح القسطنطينية، سيتحقق الوعد بفتح روما، ووعد الرسول ﷺ بقتال يهود وهزيمتهم، فقال في الحديث الذي رواه البخاري: «تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ»، وأخيراً فإن على رأس تلك البشارات إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة كما جاء في الحديث الشريف «...ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» التي بإذن الله ستُعيد للأمة عزها ونصرها وبها يتم قتال يهود والقضاء عليهم ويتم بها فتح روما، بل نستبشر بأكثر من ذلك كما كان لفتح القسطنطينية من أثر عظيم حققته الدولة الإسلامية لقرون عديدة، وكان الباب الذي عادت منه للدولة الإسلامية مكانتها في إرساء العدل والرحمة وقضائها على عقائد الكفر والاستعمار ونفوذه وأذنابه.
إن تحقيق هذه البشارات لا يكون بالركون والانتظار والتقاعس، إن كانت لها مكانتها في نفوس المسلمين من الإيمان الراسخ بأنها متحققة كما آمن المسلمون الأوائل بفتح القسطنطينية، فلم يهدأ لهم بال ولم تسكن إيحاءات هذه البشرى من مداعبة تلابيب عقولهم، لمدة تزيد عن ثمانية قرون، فأعدوا العدة ونصروا الله فنصرهم... فسنة الله أن ننصر الله فينصرنا، فنقيم شرعه ونعليَ صرح دولته ونُعدّ ما نستطيع من قوة ثم نجاهد في سبيله، وعندها تشرق الأرض بالبشارات الثلاث الباقية وتشرق الأرض بالخلافة من جديد.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. عبد الله شاكر - الأردن
#فتح_القسطنطينية #القسطنطينية
|