14 من ذي القعدة 1445    الموافق   May 3, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




العلمانيون بين النصرانية والاسلام


لقد عاش الناس في أوروبا قروناً (القرون الوسطى) تحت ظلم ما يسمى بالدولة الثيوقراطية - الدولة الدينية- والتي كانت حصيلة حلف شيطاني استبدادي بين ملوك أوروبا ورجال الكنيسة. ترتب على هذا الحلف أن أعطت الكنيسة ورجالاتها الشرعية لظلم وقهر ملوك أوروبا ولورداتها في استغلال الناس كعبيد.
ولاستمرار هذا الظلم كان هذا الحلف الذي جعل من ملوك أوروبا يحكمون باسم الإله، وبالتالي لا يمكن الخروج على حكمهم؛ لأنه هرطقة وخروج عن الدين.

ولأن من سنن الحياة أن لا يدوم الظلم، وأن يتحرك الناس ظهر علمانيو أوروبا يقودون الناس ضد هذا الظلم وهذا الحلف بين الملوك والكنيسة. لقد ظهر نوعان من المفكريين:
أولاً: فريق منهم رفض الكنيسة وكفر بها وهم (الشيوعيون).
ثانياً: فريق العلمانين الذين أرادوا فصل الكنيسة والدين عن الحياة وهم (الديمقراطيون).

فكانت الغلبة في أوروبا للاتجاه الفكري الثاني الذين سموا أنفسهم بالعلمانيين، والذين نجحوا فيما بعد بما يسمى بالثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر.
لقد كان تحرك المفكرين في أوروبا سواءً في الكفر بالدين والكنيسة، أو في إقصاء الدين عن الحياة والسياسة يعود لسببين رئيسيين:

أولاً: أن النصرانية ليست عقيدة عقلية ينبثق عنها أنظمة للحياة، فهي عقيدة وجدانية تخاطب الفطرة، ولا تخاطب العقل، فكيف يقبل العقل أن يكون الخالق مخلوقاً بالوقت نفسه؟! ولا ينبثق عن هذه العقيدة أنظمة تعالج مشاكل الحياة. بل مجرد وصايا وأخلاق.

ثانياً: أن الكنيسة ورجالاتها مارست ظلماً، وشرعنت للظلم في أوروبا.

من هنا كانت العلمانية حلاً لمشاكل الأوروبين الذين عاشوا ظلماً طويلاً في الدولة الثيوقراطية الدينية. صحيح ان المبدأ الديمقراطي الرأسمالي مبدأ فاسد، ولا يؤدي للسعادة للبشرية، لكنه كان لأهل أوروبا، الذين لا يدين أهلها بالإسلام حلاً أنقذهم من الظلم ... أما ظهور العلمانيين في العالم الإسلامي قبيل وبعد هدم الخلافة فيمكن إيعازه إلى عوامل أربعة رئيسة:

أولاً: الانحطاط الفكري الشديد، وضعف شديد لفهم الإسلام نتيجة إغلاق باب الاجتهاد، وحدوث فراغ فكري عند الأمة استغله الغرب في زرع أفكاره وثقافته، فظهر هؤلاء العلمانيون الذين سموا أنفسهم مثقفين على عدة أشكال مثل: الكتَّاب، والأكاديميين، والإعلاميين، والحزبيين .. هؤلاء العلمانيون تتلمذوا على الفكر والثقافة الغربية التي نتجت بعد الثورة الفرنسية. وكان هذا في الجامعات الغربية أمثال جامعات لندن، وباريس، والجامعات الأمريكية في بيروت والقاهرة.

ثانياً: ترتب على ما سبق من انحطاط فكري للأمة، وضعف فهمها للإسلام نجاح الغرب الكافر (أوروبا) في زرع فكرتين خطيرتين في الأمة ألا وهما: القومية، والوطنية وتزيينهما بالديمقراطية والاشتراكية. ولذلك تجد غالبية العلمانيين في بلادنا هم إما قوميون أو وطنيون.

ثالثاً: إن من سنن التاريخ أن المغلوب يعجب ويتبع أفكار الغالب. لقد كان هدم الخلافة واستعمار أوروبا لنا نتيجة حتمية للانحطاط الفكري، وضعف فهم الإسلام لدى الأمة مما نتج عنه تخلف في مناحي كثيرة في الحياة. فأعجب البعض من أبناء المسلمين بالغرب وحضارته وطريقته في العيش.

رابعاً: لقد مكَّن الاستعمار بعد هدم الخلافة لثقافته وحضارته في بلاد المسلمين من خلال سايكس بيكو، ومن خلال الأنظمة التي زرعها في بلاد المسلمين، فوفرت هذه الأنظمة مؤسسات إعلامية وتعليمية سلمتها للعلمانيين ليديروها كيفما أراد الغرب ناشرين ثقافة وفكر وحضارة الغرب.

لقد بث العلمانيون سمومهم في الأمة طوال ما يقرب المائة عام. ولقد مضى عليهم زمن نجحوا فيه بتشويه الإسلام، وتاريخه لدى أبناء الأمة الإسلامية مقابل تسويق الحضارة الغربية والنموذج الغربي. وكان هذا بارزاً في القرن الماضي وبالذات في النصف الأول منه.

لقد نسي العلمانيون في بلادنا أو تناسوا أن الإسلام يختلف عن النصرانية، فالإسلام يمتلك عقيدة عقلية تخاطب العقل وتقنعه، وتملأ القلب طمأنينة. وأن هذه العقيدة ينبثق عنها نظام يعالج مشاكل البشر بطريقة تؤدي لإسعادهم. فالمكتبة الإسلامية تمتلئ بأكثر من مليون كتاب فقه (قانون)، مستنبطة حصراً من هذه العقيدة، وتعالج جميع مشاكل الحياة.

ثم أن الإسلام حكم مساحات شاسعة لفترة تقارب الأربعة عشر قرناً كانت فيهم تمتد دولة الخلافة من المحيط الهادئ على شواطئ إندونيسيا إلى المحيط الأطلسي على شواطئ إفريقيا. وكانت هذه الخلافة لفترة طويلة الدولة الاولى في العالم ولم تكن دولة ثيوقراطية يتآمر فيها الحكام مع رجال الدين، بل كان الخليفة وكيلاً عن الأمة في تطبيق الإسلام حصراً ولا شيء غيره. فالأمة وكَّلته في عقد البيعة على أن يحكمها بالإسلام وهو بشر قد يصيب ويخطئ، ولذلك أوجب الإسلام على الأمة وعلمائها أن يحاسبوه إن خرج عن عقد البيعة.

إن الناظر في أيامنا هذه يجد أن هؤلاء "المثقفين" قد فشلوا في مهمتهم في تسويق الحضارة الغربية على الأمة، فقد كادوا أن يصبحوا أثراً بعد عين. إن عظمة هذه الأمة وسر حياتها تكمن في هذه العقيدة العظيمة، فقد ظهر المخلصون الواعون على عقيدتهم وحضارتها وعظمتها، فأزالوا ما علق بهذه العقيدة وهذه الحضارة من سموم زرعها هؤلاء العلمانيون وكلاء الغرب وعملاؤه.
وبدأت الأمة تطالب بل تصرخ بالخلافة وتسقط كل مشاريع وأفكار العلمانين، وتفضح حقيقتهم حتى أصبح العلمانيون يتلونون ويتزينون ببعض الإسلام.

فهذا أحدهم: "عمر حمزاوي" - كبير الباحثين في معهد كارينجي للسلام - لما قامت ثورة مصر أسس حزبًا ليلبس على الناس دينهم، ألقى محاضرة ذات يوم في ألمانيا قال فيها: "إننا صرنا ندعو الى قيام دولة مدنية بدل مصطلح دول علمانية لأن الناس ترفض العلمانية"، ولذلك أصبحنا نرى في أيامنا هذه ما تبقى من العلمانيين قد جن جنونهم، وطار صوابهم، فأصبحوا يسبون ويشتمون ويصرخون دون أن يسمعهم أحد فقد نبذتهم الأمة.


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - الأردن
الأستاذ بلال القصراوي

 

     
03 من محرم 1437
الموافق  2015/10/16م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد