حقا إن اللغة العربية جزء جوهري لا يتجزأ من الإسلام، ولا تحمل الدعوة الإسلامية إلا بها. وقد حرص الصحابة على تعليم أبنائهم اللغة العربية بالإضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وحين حمل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الإسلام إلى العالم، حملوه بمرتكزات ثلاث: بكتاب الله وبسنة رسوله، واللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للدولة الإسلامية.

يقولون: "اللغة ماعون التفكير ووعاؤه". والماعون وظيفته جمع الشيء وحفظ ما يوضع فيه .. فلذلك قالوا: "المرأة ماعون الولد"؛ لأنه في جوفها يتخلق، وفي رحمها ينمو، حتى تمام اكتمال خلقه. فتلده طفلاً سويًا إن توافرت له أسباب ومقومات النمو الطبيعي: من حسن تغذية، ورعاية، وتوفير بيئة، وعناية صحية للأم، فإن لم تجد الأم العناية اللازمة، ولا الرعاية المطلوبة، ولا حسن التغذية اللازمة تأتي بأجنة مشوهين، فسلامة الولد وعافيته التكوينية مربوطة بصحة أمه ماعون ووعاء حمله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: "إن العربية تزيدفي العقل"؛ ذلك أن اللغة العربية تمكن بطبيعتها الناطق بها من التعبير عن تصوراته الذهنية، وأحاسيسه النفسية، ومشاعره التي تختلج قلبه بكل راحة وأريحية لغناها بالألفاظ المصورة لتلك الصور، وتلك الأحاسيس والمشاعر القادرة على نقلها إلى أذهان الآخرين، ولما تتمتع به اللغة العربية من أساليب بلاغية في التعبير ذات قدرة على تصوير، ورسم الصور الذهنيه، ونقلها إلى أذهان المخاطبين: كالمجاز، والكناية، والتشبيه بأنواعه البلاغية المعروفة، وقدرتها على تعريب الألفاظ الأجنبية وهضمها في إخضاعها لموازينها، وللحس العربي ما يعطي ألفاظها سعة الاستيعاب لمعان متعدده في لفظ أو في ألفاظ موجزة مما يجعلها دائمة الحياة والتجدد، تواكب كل مستحدث وتهضمه تعبيرًا ولفظًا، ومن أجل ذلك اختارها الله تعالى لغة خطابه الأخير للعالمين الذين أرسل رسوله الخاتم لهم وجعلها لغة كتابه المعجز المبين. قال تعالى: (وَإنَّهُ لَتَنْزيلُ رَبِّ العَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ (194) بِلِسَاٍن عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) (الشعراء)

إنَّ أحَدَ أسباب فَهْم كتاب الله إتْقان اللُّغَة العرَبِيَّة؛ لأنَّه نزل بلِسانٍ عربيّ، فلن تستطيع أن تَفْهَمَ كتاب الله إلا إذا أتْقَنْتَ خصائص هذه اللُّغَة وقواعِدَها وفِقْهها ونَحْوَها وصرْفها وبلاغَتَها. فصحة اللغة عند أهلها واستقامة اللسان بها لازم للفهم السليم، والفكر المستقيم كلزوم صحة الأم لسلامة جنينها وحملها. وإلا نتج الفهم والتفكير المشوه والمنحرف؛ لذلك تجد الهجمة الشرسة من أعداء الأمة والملة على لغة الإعجاز، وتجد التشويه لها لتستعجم على أبنائها فيتشوه فهم نصوص القرآن، وبالتالي فهم نصوص السنة، ويتوقف الاجتهاد، وتنغلق أبوابه فيتخذ الناس من الجهال من ينبري ليتبوأ مركز الفتيا والتعليم ممن يخدم، ويسير في ركب خدمة مكر الأعداء، وكيدهم للأمة بعلم ممن خبثت طويتهم، أو بغير علم ممن استغفلوه فاطمأن لهم، فأضلوه ليصبح ضالاً مضلاً. ومن هنا نصل لفهم مقولة سيدنا عمر رضي الله عنه: "العربية تزيد في العقل" ذلك أنها وسيلة فهم وإدراك معاني الكتاب والسنة.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: "من تكلم بلسان قوم فكر بعقلهم" هذه مقولة لسيدنا عمر بن الخطاب الذي استنار عقله وقلبه بنور النبوة رضي الله عنه وأرضاه يوم اتخذ عقيدة الإسلام قاعدة ومنطلقًا لفكره، بها يبصر الأمور، وبها يحكم على الأشياء، وبما انبثق عنها من تشريع ونظام يحكم السلوك والأفعال. قالها لقوم أخذوا يتراطنون في حضرته تراطن الأعاجم بلسانها موبخًا لهم، وناهرًا بأسلوب الحكيم المستنير بهدي النبوة وواعظًا ... انها كلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب في كل محفل وشارع وجدار.

إن اللسان هو اللغة، واللغة كما أسلفنا هي الماعون الناقل، والحاوي لمفاهيم الأمة وقيمها، والخادم لمعتقدها، وبالتالي تفكيرها وطريقته. وإننا حين نقول الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو العربي فإنما نعني بالأدب هنا مجموعة القيم والمفاهيم والأفكار التي طرحت كمعالجات وفق تفكير أهل ذاك اللسان، وما يمجدونه من قيم ومفاهيم وعلاقات وأعراف يريدون نشرها والحفاظ عليها بأساليبهم الكلامية المحببة لها، والمزينة لها في النفوس، والغارسة لها في الأذهان. فلذلك نجد كل الأمم والشعوب والحضارات تسغى جاهدة لفرض لغة حضارتها على الشعوب المقهورة والمغلوبة والتابعة لها؛ لتفكر بطريقتها، ولتحمل مفاهيمها وقيمها، وبالتالي معتقدها وملتها، فتنسلخ عن ماضيها، وتنصهر في بوتقة حضارتها، فتذوب هويتها، وتميز شخصيتها، فإما أن تصبح جزءًا من أمة الغالب، وإما أن تصبح مسخًا لا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا شخصية مستقلة تميزها عن غيرها.

ومن هنا جاء إبراز القران الكريم للسان العربي، ووصفه بالمبين الذي يبن مكنونات النفس، ويستوعب رسمها بأجلى الصور البيانية، وأرقى الإيجازات البلاغية، فيعبر المتكلم به بالفكرة، فتخرج في أبهى صور الجمال والكمال والوضوح.

ورحم الله الشيخ تقي الدين النبهاني يوم عدد أسباب انحطاط المسلمين وضعفهم فكان مما عدد ومن أهم ما ذكر فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية عند المتاخرين من الفاتحين، حيث كان من أسرار قوة الفاتحين الأوائل في الصدر الأول أنهم مزجوا الطاقة العربية مع الطاقة الإسلامية، وحملوا الإسلام إلى الشعوب والبلاد المفتوحة والتي كان نتيجتها تعريب البلاد وأهلها كالقبط وكالروم وكالبربر حيث عرَّب الإسلام تلك البلاد وأهلها لأن اللسان العربي حمل لهم عقيدة الإسلام وقيمه ومفاهيمه التي أصبحت هي قيم العرب ومفاهيمهم التي تشكل عقليتهم، وتصبغ سلوكهم، وتعطيهم هويتهم الإسلامية وشخصيتهم.

وقد يقول معترض بأنه يقال: "من تعلم لغة قوم أمن شرهم". فنقول: هذا صحيح، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه أن يتعلموا لغة بعض الأقوام والأمم وذلك لغايات الدعوة والجهاد واستطلاع أحوال وأخبار الأعداء، وليس ليتباهوا بها على حساب لغتهم، ولغة دينهم وعقيدتهم ومبدئهم.

وانظر معي كيف عمل أعداؤنا الإنجليز والفرنسيون بأمتنا يوم غلبوها، ومحاولتهم الدؤوب التي ما زالت مستمرة عبر المنظمات الدولية والإقليمية لتغيير اللسان في البلدان المغلوبة، وفرنجتها لطمس هوية أهلها وقطع صلتهم بالإسلام وأهله ولغته ليسهل تضليلهم وإضلالهم.

وها هو لساننا ما زال يتعرض للهجمات من أبناء جلدتنا، وممن ينطقون بألسنتنا المتفرنجين دعاة على أبواب جهنم ممن جندهم الاستعمار بمشروع سايكس بيكو؛ ليكونو حراس مصالحه وثقافته؛ لتمكين نفوذه ولا أدل على ذلك من النشر المتعمد والممنهج للعامية، ووسائل التجهيل تحت مسمى الدراسات، ومنح الشهادات العليا، بل وبيعها لنساخ حتى إن الكثير منهم لا يجيد فن النسخ ولاحول ولا قوة الا بالله. اللهم فهمنا وعلمنا، ونعوذ بك اللهم أن نكون من الجاهلين. اللهم أكرمنا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تعيد الأمور إلى نصابها وتعيد للأمة أمجادها ... آمين يا رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - الأردن

الأستاذ محمد أحمد النادي