الدولة المبدئية لا بد أن تكون الدولة الأولى في العالم، واذا تخلفت عن هذا المركز إنما يكون تخلفها بسبب مزاحمة دولة مبدئية ظهرت أو كانت موجودة أصلا، ولذا سنجد أن الصراع هو أمر حتمي بين الدول المبدئية، ولن تقبل أي منها ترك المركز الأول لنظيرتها، وهذه من ثوابت أي مبدأ في الوجود؛ ﻷن المبدأ عقيدة، والعقيدة إذا كانت مبدئية لا تقبل ببقاء عقيدة تناقضها أو تخالفها، ولذا فأهم أسلحة الدولة المبدئية، وأمضاها وأشدها فتكًا هو السياسة وفنونها. وأما القوة المادية قل أن تلجأ إليها، وتكون بالعادة آخر العلاج، وهي لا تلجأ إليها إﻻ بعد استتفاد كل الأساليب والشراك السياسية، والتي تظهر مهارة الدولة ومهارة رجالاتها، وسنضرب بعض الأمثلة قديمًا وحديثا، وهي بهذه الألاعيب والأحابيل السياسية تصنع واقعًا تبني عليه لمشروع متصور عندها، ومعلوم تفاصيله عند قادتها الذين هم في المطبخ السياسي، أو الذين سيدخلون إليه في يوم من الأيام.

صارع رسول الله مكة أم القرى إحدى القريتين العظيمتين في جزيرة العرب، والتي يعول عليها سقوط الجزيرة العربية بيديه سقوط إحدى القريتين وأهمها مكة المكرمة فهي التي تعول عليها بالبقاء والصمود كل دول الجزيرة العربية، وعقدها مربوط بهذه الدولة المحورية المركزية، ولذا كان رسول الله r يسعى جاهدًا إلى تجميد الصراع بينه وبينها، حتى يتفرغ لغيرها، ويزيل تلك العقبات السياسية التي تحيط بدولته إحاطة السوار بالمعصم، فقد قال: «يا ويح قريش، ما يضيرهم لو خلوا بيني وبين العرب، فان ظفروا بي كان لهم ما يريدون». ولذا كان لا بد من استدراج قريش لفخ لم تحسب له حساب، ولم تعد له عدتها، ويأتيها من حيث لا تحتسب وهو عقد صلح معها، يزيلها من طريقه ليتفرد بمسرح الجزيرة، والمسرح الدولي، ولذا دفع إلى أداء العمرة، وتعظيم بيت الله الحرام، وكان له ما كان بعقد صلح الحديبية الذي وضع قريشًا بالزاوية، فحشرها وسد عليها جميع المنافذ للتفلت من هذا الشرك، وأغراها بالقبول بشروطها التي لم تدرك أنها نسجت بيدها حبل إعدامها، فكان له ما كان ونزع منها اعترافًا بكيانه السياسي الندي لها، وحطم حاجزها الذي أعاقه من الانطلاق متجاوزًا وجودها، فتركها مع هذا الفخ الذي أدركت ما وقعت به، ولذا سعت للتملص منه، ولكنه كان فيه مقتلها، وهنا بهذا الاتفاق أصبحت دولة الرسول مركز الاستقطاب لقوله تعالى: (بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿١﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿٢﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).

فبعدما أصبحت أمريكا الدولة الأولى في العالم، والقوة المتفردة التي يحسب لها ألف حساب، وما تملكه من مراكز للدراسات الاستراتيجية بحيث تجعلها عارفة بكل مجريات الأحداث في العالم، بل صانعة لكثير من تلك أو مستفيدة قطعًا مما لا يد لها فيه فقد وظفت آلاف العقول، ووضعتهم في مواقعهم ومراكزهم التي تليق بدولة تسعى للبقاء أبد الآباد، وتخطط لمشاريع الناظر لها كأنها مشاريع خيالية وألعاب أطفال، وهي في الواقع لا تنفك إطلاقا عن النظر في كل مجريات أمور السياسة وأحداثها دون إغفال صغيرة هنا أو هناك فالأمر بالنسبة لها جد مهم وخطير، وقد يكون مقتلها في تلك الفلتات التي لا يعار لها بال؛ ولذا فهي تحاول أن تكون السباقة في صنع الأحداث وإيجاد واقع لها قبل وقوعها. فمثلاً الثورة التي اندلعت في بلادنا من تونس، وغرقت فيها كثير من هذه الدول، بل واندثرت بعضها بلمح البصر أدركت أمريكا خطورتها على وجودها، ولذا بدأت ومنذ اللحظات الأولى بامتطاء هذه الثورات، وصناعة البدائل، والتخلص من بعض الآثار السابقة، بل والاستفاده من هذه الثورات، وذلك في تشغيل مصانعها والعاطلين عن العمل، واستخدام دول ذات وزن كروسيا مثلاً في تحقيق مخططاتها، ومن الأمثلة على الألاعيب السياسية قضية الهدن، والتي بها تمهد للبناء عليها، وذلك من خلال إغراء بعض التنظيمات، والرموز للمشاركه في مشروعها، والذي تخطط به للقضاء على ثورة عصيت، وفشلت كل أسلحة الدنيا في القضاء عليها، بل أكثر من ذلك هي رسمت مخططات قديمًا مغايره لمخطط سايكس بيكو، وهي تريد تنفيذ هذا المخطط الذي سيؤسس لحقبة أمريكيه متفردة بالعالم، وذلك من خلال صياغة لمنطقتنا تبقيها وللأبد سيدة الدنيا، ولذا فهي تثير فوضى في المنطقه لا تبقي ولا تذر ستؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم سياسي جديد، كما هو حاصل في العراق، والسودان، وما تسعى إليه في سوريا.

إن أي أمة في الوجود تريد أن يكون لها شأن، وينظر إليها باحترام، وتريد أن تبز الأمم الأخرى لا بد أن تكون مبدئية أي صاحبة مبدأ، وهذا في الأمم التي لم يوجدها مبدأ، أو يتولد فيها مبدأ، وهذا ليس لأمة أوجدها المبدأ منذ أقام دولة الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه عرفت مبدأها، وما غاب عنها لحظة واحدة عمليًا إلا منذ قرن من الزمان، وأما المبدأ فهو حي فيها لم يغب لحظة واحدة، وهو مادة وجودها، وسبب بقائها حتى هذه اللحظه، ولولاه لفنيت ولم يبقَ لها أثر لما تعرضت، وتتعرض له من حرب إبادة فكرية، ومادية منذ نشأتها وحتى كتابة هذه السطور، فهو سر وجودها، وهو سر حياتها، وهو سر حسد العالم لها، وهو سر مرمى سهام عدوها، وما تكالبت الأمم بهذا الشكل على أمة أبد الآباد إلا عليها، وهي في أشد حالات ضعفها، وانقسامها، وانكسارها، ومع هذا لا زالت باقية بقاء الحياة، وما سر ذلك إلا ﻷنها أمة مبدئية، عمي عليها من أن تأخذ بمبدئها إلى التطبيق العملي حتى تعود ماكنة الحياة فيها للدوران، وبقوة تذهل البشرية جمعاء من سرعة نهضتها، ورقيها وتقدمها، وهذا هو المطلوب توجيه تنبه الأمة لهذا السر العظيم حتى تقف عنده، ولا تبرحه حتى توجدها عملاً مجسدًا بكيانه السياسي دولة الخلافة على منهاج النبوة، ولذلك فليعمل العاملون وإنا لنراه قريبا، ووعدًا غير مكذوب، وأملا فيه نحيا، ولأجله نعيش ونعمل، فهل لهذا الخير من مجيب؟ اللهم اهدِ قومي فإنهم لايعلمون.

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - الأردن
الأستاذ أبو صهيب أبو سبيتان