كان الخلفاء المسلمون المتعاقبون على حكم الأمة الإسلامية، يتنافسون في خدمتها، وكانالخلف يقول لسلفه: "لقد أتعبت من جاء بعدك":

* ففي زمن عمر قال: "والله لو تعثرت بغلة في أرض العراق لسألني الله عنها لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟".

* وفي عهد هارون الرشيد، تم إنشاء عين زبيدة وهي غزيرة الماء عذبة ومن أروع ما عمله المسلمون لخدمة الحجيج، وهي عبارة عن قنوات تتجمع بها مياه الأمطار في طريق الحجاج.

* وفي عهد الخليفة الغازي عبد الحميد تم إنشاء خط حديدي يشهد له أمام الله وأمام الأمة والتاريخ، أنه عمل ما بوسعه على خدمة الأمة الإسلامية وخدمة حجيجها.

* ففي عام 1864م تم التفكير بإنشاء خط حديدي لخدمة الحجيج من دمشق إلى المدينة المنورة، يرتبط بخط سكة حديد الأناضول وخط سكة حديد بغداد، وفي عام1900م أمر السلطان الغازي عبد الحميد الثاني بالبدء بتنفيذ هذا المشروع الضخم، واكتمل إنشاؤه في أغسطس من عام1908م، ووصل أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة في 22/8/1908م، قطع خلالها 814 ميلا خلال ثلاثة أيام، كانت تستغرق في السابق أكثر من خمسة أسابيع.

وقد وصف السفير البريطاني في استانبول في تقريره السنوي عام 1907م أهمية الخط الحجازي فقال: "إن بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام ثلاثمائة مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الروحي للمسلمين، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية، ببناء سكة حديد الحجاز التي ستمهد الطريق في القريب العاجل أمام كل مسلم للقيام بفريضة الحج إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة".

وهذه شهادة العدو قبل الصديق التي تؤكد حرص خليفة المسلمين آنذاك على خدمة الحجيج، لذلك كان هذا الحنق من قبل الإنجليز تجاه السلطان عبد الحميد ومشروعه هذا, ورغم التضاريس الصعبة من الجبال والسهول والصحراء والأودية، إلا أن السلطان رحمه الله كان يمتلك قراره السياسي، فأمر ببنائِه وجمعِ المال لإتمامه، وبدأ بنفسه مفتتحًا الاكتتاب بـ320 ألف ليرة ذهب، وتبرع شاه إيران بـ50 ألفليرة ذهبية وكذلك خديوي مصر، وتوالت التبرعات حتى تم إنشاؤه خلال ثماني سنوات، وكان بمثابة حلم يراود مئات الملايين من المسلمين، نعم هذا هو خليفة المسلمين، وهذه هي الخلافة حامية الإسلام والمسلمين، التي قال فيها شوقي عند هدمها:

ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ ... وَبَكَت عَلَيكَ مَمالِكٌ وَنَواحِ

الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ ... تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ

وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ ... أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ

نَزَعوا عَنِ الأَعناقِ خَيرَ قِلادَةٍ ... وَنَضَوا عَنِ الأَعطافِ خَيرَ وِشاحِ

مَن قائِلٌ لِلمُسلِمينَ مَقالَةً ... لَم يوحِها غَيرَ النَصيحَةِ واحِ

عَهدُ الخِلافَةِ فِيَّ أَوَّلُ ذائِدٍ ... عَن حَوضِها بِبَراعَةٍ نَضّاحِ

إِنّي أَنا المِصباحُ لَستُ بِضائِعٍ ... حَتّى أَكونَ فَراشَةَ المِصباحِ

وها هو الخط الحديدي الحجازي - بعد مائة وستة عشر عاما - بأنفاقه التي شقت الجبالواخترقتها، وجسوره التي شيدت فوق أنهارها وأوديتها، والتي ما زالت ماثلة للعيان، وما زال القطار يسير عليها دون تحديث أو تجديد، شاهد على عظمة الخلافة وقوتها، وشاهد على عزِّ خليفتنا وصلابته، ومهما حاول العلمانيون النيل منه، فلن يستطيعوا لأنه لا مقارنة بين هذا العملاق وبين أقزامهم؛ أقزام سايكس بيكو، فها هي الأنظمة العلمانية رغم تعاقب حكوماتها، لم تستطع أن تنشئ خطًا حديديًا بين مدينتين لا تبعدان عن بعضهما أكثر من عشرين كيلومترًا، رغم وجود البنية التحتية المهيأة لذلك، ومنذ أن أنشئت هذه الكيانات لم نعهد لها إلا طرقًا تتسم بالحفر والمطبات. والمفاجآت، التي جعلت أرواحالناس في خطر، وخاصة طرق الحجاج والمعتمرين، فكم من الأرواح أزهقت بسبب رداءة الطرق وخرابها، وعدم الاهتمام بها، وبقاء سوئها عقودًا تلو عقود، رغم الأموال التي تجبى من الحجاج والمعتمرين بطريق مباشر أو بشكل غير مباشر، تتمثل في استصدار الجوازات والخروجيات والعمولات والتصديقات وضريبةالمبيعات.

وإن أرواح المعتمرين الذين قضوا على طرق الموت، لتلعن كل من قصر في تشييد طرق الحجيج والمعتمرين والمسافرين والمتنقلين، وإنها لتشكو القائمين على هذه الأنظمة إلى الله الذي سيسألهم لِمَ لَمْ تمهدوا الطرق للرعايا والحجيج والمعتمرين، كما مهدتموها للسائحين والحكام والمسؤولين؟؟!!

كتبه للمكتب الإعلامي في حزب التحرير- ولاية الأردن
الأستاذ: أحمد أبو قدوم