10 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 29, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




لن يطفئوا نور الله ولو اجتمعوا له


قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾. (التوبة 32, 33) وقال الله عزَّ وجل: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصف 8, 9)


آيات كريمات من كتاب الله العظيم، في سورتين مختلفتين ... هذا الكتاب الذي لا يبلى, ولا يخلق على كثرة الرد, يبين الله لنا فيهما شدة مكر الكفر وعداوته لهذا الدين ولأهله؛ لذا دعُونا نقف على مرامي هذه الآيات ودقائقها وما فيها من كشف وفضح وبيان ... لعله يكون لنا موقف يرضى به عنا رب السماوات والأرض فنقول:


أولاً: لقد ابتدأت هاتان الآيتان بلفظ واحد وبالفعل المضارع (يريدون) بمعنى ذكرت إرادة الكفر وعبرت عنها بالفعل المضارع الذي يدل على الحدوث والتجدد في الحاضر والمستقبل, ولم يأت التعبير بالفعل الماضي (أرادوا) الذي يدل على الحدوث وانتهاء الفعل ليبّين للمسلمين أن مكر الكفر متجدد ومستمر لن يهدأ لهم تفكير سواء أكان ماضيًا أوحاضرًا أو مستقبلاً في محاولة منهم إطفاء هذا النور, وما المؤتمرات والهدن واللقاءات والحوارات والزيارات إلا مكرٌ بكم, وإضعافٌ لكم؛ لعلكم تنخدعون بها, وهي مكر فوق مكر، هذا ديدن الكفر لا تهدأ لهم حركة, ولا ينام لهم جفن.


• فما بالكم يا أمة الإسلام, وأنتم حراس الدين والعقيدة, وأنتم جند الله وأحباؤه, وأهل السياسية والفكر, وميادين الجهاد والاستشهاد؟
• أيعقل أن تنام لكم عين, ويغفل لكم تفكير وقد اشتدت المعركة, وكشَّر الكفر عن أنيابه, وشمّر عن ساقه وساعديه؟
• أيعقل أن يكون لنا موقف غير موقف العزة والكرامة, والرجولة والفداء؟
• أيعقل أن نغط في سبات عميق, ونحن في مقدمة الصفوف في المعركة؟
• أيعقل أن تسبى المسلمات بكل أرض ... وعيش المسلمين إذًا يطيب؟ لا, والله يا أمة الإسلام, لن يطيب للمسلم عيش, وأحكام الله معطلة, ودينه مستباح, ولون الدم غطى وجه الأرض!!


ثانيًا: لقد عبرت الآيات بالتعبير نفسه في استخدام كلمة (الإطفاء), ولم تعبر بكلمة أخرى كمثل (الإخماد) لتدل على أمر دقيق وخطير, ولا يكون المعنى بغير هذا اللفظ فما هو سر هذا التعبير؟ ولماذا؟ لإن الإخماد لا يكون إلا للنار الكثيرة, بخلاف الإطفاء الذي يستعمل في الكثير والقليل، وهنا مكمن السر وخطورته يا أمة الإسلام، الكفر يريد أن يطفيء نور الإسلام وأحكامه وعقيدته وشعائره كاملة, ولن يقبل ببعض الأحكام, ولو قلَّت, فهو يريد إطفاء أي شعاع, وأي حكم مهما صغر وكل مسألة ولو صغرت، فإن سكتوا عن أمر معين لاعتبارات تقتضيها الظروف والإمكانات والاعتبارات فهو سكوت مؤقت سرعان ما ينقض عليه بعد توفر إمكاناته وظروفه, فهم في حرب مع الإسلام كله, سواء أكان نظام حكم أو اقتصاد أوسياسية خارجية. وأيضًا في حرب مع النظام الاجتماعي والعبادات وكل شعائر الإسلام, وما سيداو, والمساواة, والحريات, ومنع فتاة من أن تضع قطعة قماش على رأسها في الغرب إلا دليل على بلاغة هذا التعبير.


ثالثا:- لقد اختلف التعبير في السورتين فإحداهما جاءت بلفظ (أن يطفئوا), والأخرى جاءت بقوله تعالى (ليطفئوا) وهذا الاختلاف يدل على أمر عظيم, وخطة محكمة في حرب الكفر على الإسلام, وهذا يظهر في الاختلاف اللفظي بين السورتين إشارة إلى أنَّهم يغايرون في إظهار غاياتهم وأهدافهم؛ ففي آية التوبة هم يريدون إطفاء نور الله صراحة وبصورة ظاهرة ومباشرة، فالإطفاء (وهو المفعول به للفعل: يريدون) هو مرادهم علناً، فالغاية من إرادتهم هنا ظاهرة وصريحة.


أما آية الصف، وتقديرها: (يريدون لإطفاء نور الله)؛ فالشيء المراد فيها (وهو المفعول به للفعل: يريدون) غيرُ مذكور، أي أنّهم يريدون مرادات مختلفة يجعلونها وسائل موصلة في نهاياتها إلى إطفاء نور الله، فهم لا يَظهرون أو يُظهرون علنًا أنهم يريدون الإطفاء، وإنما يريدون أن يصلوا إلى الإطفاء من خلال طرق غير مباشرة توصل في زعمهم وتدبيرهم إليه، وهنا يظهر شأن الكفر والأدوات والعملاء, ولا أقول العملاء الذين أصبحوا كالكفر في حربهم وغايتهم وصراحة عدواتهم للإسلام بحيث لا يتورعون عن بيان, وكشف حقدهم على الإسلام وأهله في كافة الميادين, والمنابر والمواقف كمثل قول بعضهم: "إن المشكلة تكمن في ذات الإسلام أو القران", وإنه يجب أن يقبل الإسلام بما قبلت به المسيحية, وكأن المسيحية فيها نظام يعالج كافة شؤون الإنسان!


ولكن المصيبة الكبيرة, والخطر العظيم, فيمن يحمل شعارات الإسلام لتنخدع به الأمة, وطريقه يوصل إلى هلاك الأمة, وتغيير الإسلام فيقول بزعمه مثلا: تغيير الخطاب الديني، والتعايش المشترك, والمساواة, وكلها يُراد منها إطفاء نور أحكام الإسلام, وكلها طرق لتحقيق غاية الكفر بطريق غير مباشر, وكلها تؤدي النتيجة نفسها, فالتسامح مثلا ينطق به هؤلاء, وبراميل الموت تقذف من كل حدب وصوب, وآهات الثكالى والصبايا, وعيون الموت الذي ترقب المكان, وصرخة حرة عفيفة طاهرة يجرها وغد إلى فراش الرذيلة والحرام, وحليب طفل اختلط بالدم في الشام, وأفريقيا الوسطى, وبورما والعراق .. ثم يأتيك من يحدثنا عن التسامح!!


لعل بعضنا يئس من طول الطريق, وكثرة الدماء والأشلاء, ولكنَّ الله حسم أمر المعركة ونتيجتها فهي حرب مع الله, وجاء التعبير في السورتين مختلفًا: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره), والأخرى (والله متم نوره). لقد جاء الموقف الرباني من تلك الإرادات والغايات في السورتين مختلفًا في المبنى؛ ليبين لنا الدلالات الإضافية في المعنى، تتناسب مع اختلاف الدلالات في الغايات في الآيتين: ففي آية التوبة يقول الله - تعالى - بجملة فعليّة حاصرة: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ)، والإباء: هو الامتناع بقوّة؛ فالله - تعالى - هنا يأبى كلّ شيء إلا إتمامَ نوره. وفي التعبير بالفعل (يأبى) من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة لو كان التعبير: (ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره). فهم يريدون إطفاء النور، واللهُ الذي له جميع العظمة, وكمال القدرة والعز, ونفوذ الكلمة يأبى إلا أن يتمّ نوره، ثم يجدّدون الإرادة، والله يأبى ... وما تزال إراداتهم تتجدّد, ويتجدّد معها إباء العظيم - جل وعلا - وامتناعه من كل شيء إلا إتمام النور. واستعمال الجملة الفعلية الحاصرة بفعلها المضارع (يأبى) المشعِر بقوة الامتناع؛ يتناسب مع الغاية الصريحة, والجرأة المعلنة التي ظهرت منهم في أول الآية: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ)؛ فغاية الإطفاء لنور الله المعلنة بصراحة وجرأة لا يناسبها إلا القوة في بيان الموقف الإلهي, واللهِ إنه لتعبير تطمئن له قلوب المؤمنين, فلا يأس ولا خوف ولا وجل, فإرادة الكفر تافة حقيرة لا قيمة لها, وأساليبهم تافة ولا قيمة لها, ووسائلهم وإن تعددت فهي لا قيمة لها مع إرادة الله، يالله كم لتعبير كلمة (ويأبى الله) من أثر في النفس، ويأبى ماذا؟ يأبى إلا أمرًا واحدًا لا بديل له، يأبى إلا أن يتم نوره, ولو كره الكافرون, ولو كره المشركون, يا لها من كلمات لها أعظم الأثر في نفوس المسلمين, فقد عبر بالإباء, وربطه به, وجاء بحرف الاستثناء, وحرف النون للتوكيد, ويأبى الله إلا إتمام نوره, ولو كره الكفر والشرك, بل إرادة الله نافذة, وأمره قائم لا رادّ لإرادته وأمره, وهذا مبعث طمأنية لنا أهل الإسلام ولله الحمد.


أمّا آية الصف التي جاءت إرادة الإطفاء فيها عبر الوسائل والأعوان والشعارات الإصلاحية: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ)؛ فيناسبها أن تكون صياغة الموقف الإلهي فيها من خلال الجملة الاسمية الحاليّة: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ)؛ التي تدل على الدوام والثبوت, وهذا خطاب للمهزومين، إن كنتم تخافون على الإسلام, فالله متم نوره, فلا تقلقوا ولا تخافوا, ولا تضعفوا, وإياكم وتعدد السُبل, فالله قطع الأمر, وأزال الحجة, فما لكم من حجة تعتدون بها, بل يجب عليكم أن تقفوا الموقف الذي يرضى به عنكم رب السماوات والأرض.


وفي الختام - وإن لم نوف الآيات حقها - خشية الإطالة: أيتها الأمة الكريمة: هذه حرب معلومة النتيجة قطعًا, فالله أرسل رسوله بالحق والهدى والنور؛ ليظهره على الدين كله, والإظهار هو الظهور بلا منازع, وهو وعد من الله, ولن يخلف الله وعده، ظهورًا وإظهارًا على كافة الأديان, والمبادئ والأفكار, والعقائد والأنظمة, ظهورًا وإظهارًا لا منازعة فيه, ولكن ليست القضية هنا, فهذا أمر نعتقد به اعتقادًا جازمًا, وندين به لله, لا شك فيه, وإنما القضية نحن! نعم القضية نحن: هل اخترنا لأنفسنا مقعدًا متقدمًا في هذه الحرب أم جلسنا ننتظر؟ لا أقول كالنساء فوالله إن نساء المسلمين أذهلن الكفر بمواقفهن, وسطر الحاضر أعظم مواقف الرجولة لهن!! ففي الشام والقدس لنا مثل, ولكن فلينظر كل منا إلى مقعده أين هو من هذه الحرب؟ وأين يقف؟ وفيم الانتظار؟


ألسنا حراسًا للعقيدة وللإسلام؟ ألسنا المخاطبين بالجهاد والبيان والصدع بكلمة الحق ولو على حز الرقاب؟ أين نحن في هذه المعركة المصيرية؟ وأين دورنا وجهدنا وأوقاتنا وأموالنا وأهلنا وذرياتنا؟ هذه المعركة التي ينبني عليها عز الدارين ورضا الرحمن أو خسارة ليس بعدها خسارة!!


ورد في الظلال لمؤلفه سيد قطب - رحمه الله - قوله: "... وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين؛ ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين! وراية غير راية الدين ... (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم * والله متم نوره ولو كره الكافرون). وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة, ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء!! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم: (هذا سحر مبين) ... ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد ... وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل!! (والله متم نوره ولو كره الكافرون) ... وصدق وعد الله. أتم نوره في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار. صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة, تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب, ولكن حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم, وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه, ويجاهدون في سبيله, ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر, فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء, وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين, وتنبض وتنتفض قائمة - على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد؛ لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه, ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد, في أيدي العبيد! وإن خيل للطغاة الجبارين, وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد!!".


وختاما نقول: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ و الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية الأردن
الأستاذ حسن حمدان / أبو البراء

 

     
28 من رجب 1437
الموافق  2016/05/05م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد