10 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 29, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




 

 

بعد قرن على اتفاقية سايكس بيكو، آن الأوان لتحطيم آثارها

 

في 16 ايار/مايو 1916، مع وشوك هزيمة ألمانيا و الدولة العثمانية  في الحرب العالمية الأولى أبرم الدبلوماسيان مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو معاهدة تقاسم البريطانيون والفرنسيون بموجبها السيطرة والنفوذ في مناطق انحسار السلطة العثمانية، وفق خطوط شكلت إلى حد كبير حدود البلدان الحالية في الشرق الأوسط.


كانت بريطانيا وفرنسا أعدتا هذه الاتفاقية سرًا على مدى أربعة أشهر من المفاوضات السرية بين نوفمبر 1915م ومايو 1916م  وبالتواطؤ مع روسيا، وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تتفاوض مع شريف مكة حسين بن علي من خلال مراسلاته مع ماكمهون  مندوب بريطانيا  في مصر لمنح الاستقلال للولايات العربية الواقعة ضمن السلطنة العثمانية بعد إعلانها الثورة على العثمانيين تحت ما يسمى بالثورة العربية الكبرى, وخروجهم على الدولة العثمانية، دولة الخلافة، إلى جانب الإنجليز الكفار المستعمرين مقابل وعدٍ كاذبٍ بالاستقلال، لكن وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917م أتاح الفرصة للكشف عن الاتفاقية، مما أثار غضب الشعوب التي تمسها، وفضحت فرنسا وبريطانيا.


حدث ذلك وما زالت المناطق العربية التي تم اقتسامها بين المستعمرين سرًا تخضع للسيادة العثمانية، وبعد انهيار الامبراطورية العثمانية، وإطباق بريطانيا على أراضي فلسطين والعراق تخلت بريطانيا عن فكرة تقسيم أملاك الدولة العثمانية  وفق مخطط سايكس بيكو، واستبدلت بها نظام الانتداب الذي أقره مؤتمر "سان ريمو" الذي عقدته مع فرنسا في 26 من أبريل/نيسان 1920م بهدف تحديد مصير ولايات المشرق العربي المحتلة، والتي رسمت من خلاله الحدود المعروفة للبلاد العربية والإسلامية الحديثة، ليس هذا فحسب فبعد سنة من توقيع اتفاق سايكس بيكو وتحديدًا في 2 نوفمبر عام 1917م تم توقيع وعد بلفور الذي نصت فيه بريطانيا على منح  فلسطين وطنًا قوميًا ليهود.


وبقي الاستعمار الفرنسي البريطاني حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 مهيمنًا في بلدان المشرق متسلحًا بسلطة الانتداب الممنوحة له من قبل عصبة الأمم ، ومع تراجع دور الامبراطوريتين: الفرنسية والبريطانية عالميًا بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي انتقلت بريطانيا وفرنسا في الستينيات والسبعينيات إلى تصفية وجودها المباشر في مناطق العالم العربي، إلى الاستعمار غير المباشر عن طريق منح الاستقلال الصوري لهذه البلدان بعد تنصيب حكام عملاء لها في المناطق "المستقلة" اسمًا، ولتبدأ مرحلة جديدة من الصراع الدولي البريطاني الأوروبي من جهة, والأمريكي من جهة أخرى للسيطرة على ثروات واقتصاد هذه البلدان وخصوصًا بعد اكتشاف النفط، وعلى حساب دماء المسلمين ودمار بلدانهم التي ما زالت مستمرة حتى الآن.


كانت هذه الاتفاقية هي المشروع الاستعماري النقيض لدولة الخلافة, والذي نفذته بريطانيا وفرنسا للقضاء على دولة الخلافة العثمانية، التي مثلت الكيان السياسي الجامع للمسلمين رغم ما عانته من ضعف وسوء في تطبيق الإسلام في آخر عهدها. وكان من آثار ترجمتها على الواقع إنشاء الدول القطرية، القومية والوطنية، دول هزيلة كرتونية تفتقر معظمها إلى مقومات الدول، وتشكلت في دستورها وحدودها وأعلامها بحيث تخدم المصالح الاستعمارية بالتدخل والسيطرة ونهب الثروات واستدامة النِّزاعات والفرقة فيما بينها محليًا وإقليميًا، وتعرضها للمنافسة بين قوى الاستعمار الغربي بالانقلابات والنِّزاعات, وأخيرًا بالتدخل العسكري والاقتصادي المباشر، كلما استدعت الحاجة لذلك عند عجز عملائها عن تحقيق مصالحها, أو عند قيام الثورات المخلصة ضد طغيان حكامها مثل ما يحصل الآن في سوريا.


من أجل ذلك ربطت هذه البلدان باتفاقيات مكبلة دولية واقليمية, وسهلت القوى الاستعمارية دخولها إلى مظلة الشرعية الدولية التي تسيطر عليها القوى الاستعمارية كأمريكا وأوروبا وروسيا، كمجلس الأمن  وهيئة الأمم وصندوق النقد الدولي، وأخيرًا اتفاقيات التجارة العالمية والأحلاف العسكرية الموسمية، بحيث تكون هي مرجعية حربها وسلمها, وتحالفها وعدائها, في نصرتها أو صمتها عندما تقع شعوب إحدى بلدانها تحت عدوان وطغيان وبطش حكامها المنقادين لأسيادهم الغربيين.


إن الواقع الكارثي لهذه الاتفاقية التآمرية الاستعمارية ليدل على مدى الحقد والرعب الذي يملأ صدور الكفار المستعمرين نحو المسلمين والإسلام، ونحو دولة الخلافة كيانهم السياسي، فكان مكر تمزيق التركة العثمانية إلى دويلات عصرية تنسلخ تمامًا عن  عقيدتها ودولتها التي حافظت على حياتها وثرواتها، فعملت الحالة الاستعمارية في البلدان الخاضعة لها على قمع المكونات الأساسية لمجتمعاتها وهي الأفكار والمشاعر الإسلامية, وخلق مكونات ثقافية إقصائية للدين والأخوة في الدين، لتحل محلها علمانية قومية أو وطنية, أو حتى علمانية دينية لافرق، وتعيد تنظيمها وفق رؤية جديدة تتسق مع مفهوم الدولة  القطرية  والوطنية الجديدة، وكما هو الحال في الكثير من الكيانات الوليدة التي جل أهلها من المسلمين في أفريقيا وآسيا, التي تبني المؤسسات والبنى التي خلقها الاستعمار بوصفها مؤسسات وبنى محلية واستغفال حداثة سنها  وأصلها المستورد والقادم من الخارج، وأصبحت وكأنها مؤسسات وطنية يجب الدفاع عنها ببسالة، يرافقها تطبيل إعلامي مضلل، وكأنها الأصل ويتبناها أبناء القطر، ويدافعون عنها باعتبارها مكونات تاريخية أصلية، كأعلام سايكس بيكو، الخرق التي يدافعون عنها ويؤدون لها التحية، وهي من صنع المستعمرين أعدائهم ناهيك عن الدساتير، والجيوش التي "تحمي" الحدود وعروش الحكام الطغاة المستبدين عملاء الاستعمار، الذي يغض الطرف عن قتلهم وتعذيبهم لشعوبهم ونهب ثرواتهم،  ضاربًا بعرض الحائط مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتبجح  بقيمها، ما دام هؤلاء الحكام يقومون بأدوارهم المسندة إليهم خير قيام، بدل أن تكون هذه الجيوش لنصرة المسلمين, وتحرير المحتل من أراضيها، علاوة على إعادة سلطان الأمة المغتصب من حكامها لصالح المشاريع الاستعمارية،  ونصرتها للمشروع النهضوي للأمة بإعادة ما كان سببًا في تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو وهو دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الكيان السياسي للأمة الإسلامية والحامي لبيضة الإسلام والمسلمين.


يقول الدكتور علي محافظة المؤرخ الأردني في ندوة حوارية أدارتها جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 14/11/2008م حول سياسة الأردن الخارجية: "إن منطقتنا كانت وحتى هذه الساعة منطقة نفوذ للدول الكبرى، والأردن منذ البداية وحتى هذه الساعة كان مع الغرب, ومع المشاريع الغربية, ولا يمكن أن يكون غير ذلك, وهذا عامل مهم وأساسي في السياسة الخارجية الأردنية"، وأضاف قائلاً: "والكيان الأردني أنشئ كما تعلمون مثل كل الكيانات الموجودة في المنطقة على يد الدول الاستعمارية التي سيطرت على هذه المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، واقتسمت مناطق نفوذ فيها، فجعلت سورية ولبنان لفرنسا, وفلسطين وشرق الأردن والعراق لبريطانيا، والأخيرة أرادت بوجود الكيان الأردني أن يكون دولة واقية لفلسطين حيث ستقيم فيها الوطن القومي اليهودي".


لا شك أن الأمة اليوم تدرك وتكتوي بنار ومآلات هذه الاتفاقية التي مزقت بلاد المسلمين، إلى ما يزيد عن خمسين بلدًا، بل وجعلت أهل كل بلد منها أجنبيًا عن الآخر مع أنهم إخوة في الإسلام، دينهم واحد،  وربهم واحد، ورايتهم واحدة،  فعزلتهم وفرقتهم فكريًا وماديًا، فتعاظمت في نظرهم صعوبة وحدتهم ونصرتهم لبعضهم واستعادة سلطانهم المغتصب، ومن ثم استعادة كيانهم السياسي، وهو دولة الخلافة الجامعة لهم والحافظة لدينهم وحياتهم، بل التي بها عزتهم وكرامتهم، وحاملة رسالة الإسلام لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بالدعوة والجهاد.


من الواضح كل الوضوح أن الأمة تملك من المقدرات والجيوش والرجال والسلاح ما يمكنها ليس فقط من إزالة حراس هذه الحدود المصطنعة، الذين لولاهم لما تمكنت قوى الكفر المستعمرة من مس المسلمين بأذى، ولما تطاول أعداء المسلمين من كتاب وإعلاميين وسياسيين وعلماء دين على عقيدة وأفكار الإسلام وأحكامه، بل أن الأمة قادرة على نصرة الإسلام،  والعمل مع العاملين من أجل إعادة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة،  والتي من خلالها فقط يتم تحطيم آثار ومخلفات سايكس بيكو الكارثية, وإخراج كل الدول الاستعمارية من المنطقة، لا بل وإجبارها على دفع الثمن غاليًا لعدوانها ونهبها لثروات المسلمين.


إن دور الأمة في عملية التغيير، والمشهد السياسي في العالم الإسلامي والعربي، وبعد انتفاضة الأمة على حكامها المستبدين، سواء كان في بلدان الربيع العربي أو المحيطة بها،  تؤكد على معدن الأمة الكريم، وتؤكد أنها أمة حية وقادرة، وليست عاجزة، وأنها تحركت وكسرت حاجز الخوف بفضل من الله ونعمه، ولكن عليها أن تدرك أن صراعها صراع حضاري استعماري، ومصيري ليس بالنسبة لها فحسب، وإنما للمستعمر أيضًا؛ لأن فشله يعني انتهاء وجوده بلا رجعة، وإن فشل الأمة لا سمح الله يعني بقاءها في دوامة الضعف والاستعباد والتبعية،  فلهذا من الضروري اتخاذ موقف الحياة والموت بالنسبة للأمة الإسلامية عند سعيها لإزالة المستعمر جذريًا من فضائها ومناطقها، وفرض مشروعها النهضوي الحقيقي بإقامة دولة الخلافة الراشدة واقعًا عمليًا، كما أقامه الرَّسول صلى الله عليه وسلم أول مرة في المدينة المنورة طريقةً وتأسيسًا.



د. أحمد حسونة

نائب رئيس المكتب الاعلامي لحزب التحرير - ولاية الاردن


 

     
09 من شـعبان 1437
الموافق  2016/05/16م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد