كان من أبرز الأساليب التي استخدمها الاستعمار الغربي البريطاني والفرنسي ومن ثم الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية قبل خروجه شكليًا من بلاد المسلمين المستعمرة هي تعيين وكلاء وعملاء صنعهم على عين بصيرة ليصبحوا حكامًا وقادة  لهذه البلاد التي يسوسونها لمصالح هذا المستعمر مقابل مكاسب مالية ودنيوية مؤقتة لحين استنْزاف خدماتهم لأسيادهم الذين عينوهم في مناصبهم، أو الانقلاب عليهم من قبل مستعمر منافس آخر، ليأتوا بغيرهم وهكذا دواليك, وكان هؤلاء الحكام والقادة السياسيون والعسكريون يصنعون ويستنسخون ويشكلون بتأن وتؤدة في مراكز تدريب عسكرية ثقافية مكثفة في بلاد الغرب المستعمر، ومن أشهرها أكادمية ساندهيرست العسكرية البريطانية، وكلية ويست بوينت الأمريكية وسانت سير الفرنسية.

تقع أكاديمية

ساندهيرست العسكرية الملكية -  Royal Military Academy Sandhurst  - على بعد 30ميلا من لندن وتعد من أفضل المعاهد العسكرية المرموقة في العالم، تم تأسيسها عام 1802 وتعتبر مركز تدريب أساسي لضباط الجيش البريطاني لأكثر من 200 عام، وللأكاديمية تاريخ طويل في استقبال أبناء قادة دول الشرق الأوسط الذين يستلمون بعد ذلك دفة الحكم في بلدانهم.

الأكاديمية تعطي تدريسًا مكثَّفًا قوامه 44 أسبوعًا بتكلفة 220 ألف دولار أمريكي. تتركز مهمَّتها في تدريب ضباط الجيش البريطاني، لكنها تقبل عددًا من الطلاب من مختلف دول العالم. حاليًا يوجد 6 رؤساء وملوك حول العالم درسوا في الأكاديميَّة، فهل تتخيَّل كيف هي قوة بريطانيا غير الظاهرة إذن؟

فوفقًا للمعلومات المتوفرة تخرج من هذه الأكاديمية ستة ملوك عرب وعدد من الأمراء بينهم 12 أميرًا من العائلة السعودية المالكة, والذين يشغلون حالياً مناصب عليا في الدولة.  وحسب أحدث تقارير الأكاديمية، تحتل الإمارات المركز الأول على قائمة أكثر الدول التي درس ضباطها في (ساندهيرست) بعد بريطانيا. وفي عام 2014 استقبلت الأكاديمية 72 ضابطًا من خارج بريطانيا، 40% منهم من العرب.

ومن بين الحكام العرب الحاليين يوجد أربعة من خريجي الأكاديمية والكليات التابعة لها، وهم: ملك الأردن عبدالله بن الحسين، وملك البحرين حمد بن عيسى، والسلطان العماني قابوس بن سعيد، وأمير قطر تميم بن حمد, والتدريب في (ساندهيرست) ليس عسكريًا فقط، وهذه ميزة تجعلها مقصدًا لأبناء الأمراء والعسكريين الصاعدين، حيث يضم التدريب برامج خاصة بالسياسة الدولية وإدارة النِّزاعات ومهارات التواصل. وفي أروقة هذه الأكاديمية يتعرف حكام المستقبل على بعضهم بعضاً، وبالتالي تُمنح بريطانيا تأثيرًا في بلدانهم، ويخلق التدريب العسكري في (ساندهيرست) روابط قوية بين قادة الجيوش الأوروبية والآسيوية والأفريقية، بالإضافة إلى الدول العربية التي ذكرناها، فتضم قائمة خريجي الأكاديمية العديد من أمراء وقادة جيوش ورؤساء الهند وباكستان ونيجيريا وماليزيا وسلطنة بروناي والكثيرغيرهم.

تفاصيل التدريب غير معلنة ولكن يمكن الاطلاع على بعضها من مذكرات الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة،في حرب الخليج، وأحد خريجي ساندهيرست، في الفقرات الآتية:

أولا: "تتلخص طريقة التدريب في أكاديمية ساندهيرست إلى أنهم يعمدون إلى تحطيمك تمامًا، جسديًا وعقليًا، فتتحول في أيديهم بفعل المعاملة القاسية إلى عجينة طرية، ثم يعمدون عقب ذلك إلى بنائك مجددًا،  ولم يكن النجاح أمرًا سهل المنال، وكان الخوف والرعب من عودة الطالب إلى بلده فاشلاً من أكبر الدوافع لإكمال الدراسة وتحمل مشاقها".

ثانيا: "ينقسم برنامج الدراسة، إلى ستة فصول دراسية كل منها 14 أسبوعًا، وليس الجهد البدني هو الذي يجعل تدريبات ساندهيرست تفوق كل احتمال، لكنها المهانة التي تصاحبه. إنها العنصر الثاني في عملية "التحطيم". يعامل الطلاب خلالها معاملة الحشرات، وهناك من يصرخ بهم ويستأسد عليهم ويسومهم سوء المهانة".

ثالثا: "لم أكن معتادًا على تلقِّي الأوامر الصارمة كل وقت وحين، ولم أتعرض من قبل للسَّب والإهانة! ولَمَّا كنت ذا طبع عنيد، وجدت صعوبة بالغة في كظم غيظي، وابتلاع ألمي، وعدم الرد على الإهانات صاعًا بصاع! وكان من شأن ذلك كله أن ينهي مستقبلي العسكري قبل أن يبدأ. ولم أعتد تنظيف دورات المياه، أو أن أُنادى بأقذع ألفاظ السباب، مثل: "أيها التافه، الكسول، اللعين، الفاسد". كان الرقيب أول راي Ray يخاطب سريتنا مزمجرًا: "أنا أناديك قائلاً يا سيدي، وأنت تناديني بقولك: يا سيدي، والفرق الوحيد هو أنك تعني ما تقول، بينما لا أعني أنا شيئا مما أقول.

رابعا: "تحسنت الأحوال بشكل كبير في ساندهيرست بعد انتهاء فترة التدريب الأساسي. بدءُوا يعاملون الطلاب كبشر، بعد أن كانوا يعاملونهم كحيوانات. أخذنا ننعم في الفصول التالية بالراحة والمدنية، فقد اشتملت على الدراسة الأكاديمية لفن الحرب، والاستراتيجية، والتاريخ العسكري، والشؤون الدولية. أصبح يُنظر إلينا كأننا طلاب جامعة، وأخذنا نسترد ثقتنا بأنفسنا".

خامسا: "كان الهدف النهائي من الفصل الأخير، هو تهيئة الطلبة للمرحلة الأخيرة قبل تخرجهم والارتفاع بمستوى كفاءتهم وتطوير قدراتهم على التفكير تحت الضغوط المختلفة. ولتحقيق ذلك، ينفذ الطلاب تمرينات لا حصر لها في أجواء مماثلة للمعارك الحقيقية، فيُطلَب منهم وضع الخطط والتقديرات، واتخاذ القرارات العسكرية في أضيق الأوقات، والالتزام بقواعد سلوكية محددة لا يمكن التهاون في شأنها، تتلخص في شعار الاكاديمية: "اجتهد لتقود".

انتهى الاقتباس من مذكرات الامير خالد بن سلطان.

يقول المؤرخ هيلاري بيراتون في كتابه «تاريخ الطلبة الأجانب في الجامعات البريطانية» إن سياسة بريطانيا، خلال الاستعمار وبعده، تعتمد على تشكيل شبكة علاقات واسعة بين المملكة المتحدة وبين حُكَّام وقادة الدول التي كانت تابعة لها، تبدو الصفقة رابحةً للجميع: تحظى بريطانيا بعلاقات قوية بقادة هذه الدول، ويتلقَّى هؤلاء القادة تدريبًا عسكريًا رفيعًا على مستوى أبناء العائلة الملكية البريطانية.

وتقول حبيبة حامد، مستشارة السياسة الخارجية السابقة لحكام دبي وأبوظبي "البريطانيون كانوا بارعين في شيء واحد وهو تدعيم حكمهم عن طريق استعراض العظمة، الاحتفال ومظاهر القوة العسكرية بالإضافة إلى الصدمة والرعب، وكل هذا ينبع من العلاقة العسكرية البريطانية."

"ربما تكون ساندهيرست رائعة لبريطانيا، البلد التي يخضع فيها الجيش للحكومة، لكنها أيضا تقدم تدريبًا عسكريًا لضباط من إمارات الشرق الأوسط، والتي غالبًا ما تعمل جيوشها لحماية الأسرة الحاكمة وليس لحماية الأمة".

لكن الأمر لا يمُر دون كلفة؛ فعادةً ما يستخدم القادة العسكريون الذين تدربوا في بريطانيا ما تعلموه من معرفة عسكرية وسياسية، والعلاقات التي جمعتهم بالصف الأول من العسكريين في العالم، في السيطرة على السلطة في بلدانهم. لم يكن أولهم (شوكوما كادونا) قائد أول انقلاب عسكري في نيجيريا في عام 1966م، ولا معمر القذافي آخرهم بانقلاب عام 1969م، بعد 3 أعوام فقط من إتمامه تدريبًا عسكريًا في بريطانيا.

لكن الحكاية تمتد إلى ما هو أبعد من أسماءٍ تاريخية تُمحى، أو ملايين تُهدَى، فعدد كبير من ضباط القوات المسلحة السورية الذين يقتلون بني جلدتهم اليوم تدربوا في الأكاديمية عام 2003، بعد فترة قصيرة من زيارة توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت، لدمشق في إشارة إلى دفء العلاقات بين بريطانيا وسوريا.

كما أشارت نشرة انتيليجانس أون لاين، في عددها رقم 652 بتاريخ 10 نوفمبر 2011م، إلى العلاقة المميزة التي تجمع بين السلطان قابوس والعديد من الشخصيات البريطانية، ومنهم الراحل تيم لاندون، الذي وافته المنية في عام 2007م، ودرس مع قابوس في أكاديمية ساند هيرست، وساعده في الاستيلاء على السلطة في عام 1970م. وتبدو الصفقة رابحة للجميع، حيث تحظى بريطانيا بعلاقات قوية بقادة هذه الدول، ويتلقى هؤلاء القادة تدريبًا عسكرياً رفيعًا على مستوى أبناء العائلة الملكية البريطانية. وأموال أمراء مجلس التعاون السخية ليست خارج المعادلة؛ فقد تلقت أكاديمية (ساندهيرست) خلال العامين السابقين فقط، تبرعًا بقيمة 15 مليون جنيه إسترليني من الإمارات لإنشاء مبنى سكني جديد يحمل اسم الشيخ زايد آل نهيان مؤسس دولة الإمارات، و3 ملايين جنيه إسترليني من ملك البحرين.

وبحسب (مايكل ستيفنز) نائب مدير المعهد الملكي للخدمات المتحدة بقطر، "تجذب بريطانيا اهتمام النخب السياسية العربية، وهو ما يمنحها نفوذًا وقوة أكبر. فهناك أشخاص قضوا وقتًا في بريطانيا وهم على علاقة بزملائهم ومعلميهم". وقد ظهرت هذه الألفة بوضوح خلال جنازة الملك الأردني حسين بن طلال عام 1999م التي قال عنها الجنرال (آرثر دينارو) مستشار وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط والقائد بأكاديمية (ساندهيرست) في نهاية التسعينيات: "حضر كل زعماء العالم تقريبًا، بينهم رئيس الوزراء البريطاني في حينها توني بلير، وعندما رآني أتحدث إلى زعماء الدول، ومنهم سلطان بروناي وإلى بحرينيين وسعوديين، سألني كيف تعرفت إلى كل هؤلاء، فأجبته إنهم تتلمذوا في (ساندهيرست).

وفي حواره مع مجلة (درع الوطن) الصادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة الإماراتية أوضح اللواء (تي. بي. إيفانز) القائد العام لأكاديمية (ساندهيرست): "في نوفمبر 2012م وخلال احتفالاتنا بمرور 200 عام على تأسيس الأكاديمية، كان لدينا عدد كبير من الشيوخ والأمراء الضيوف من منطقة الشرق الأوسط الذين حضروا مأدبة العشاء التي أقامتها الأكاديمية، وقد حضر عدد كبير من كبار القادة والمسؤولين من مختلف دول العالم، لقد كان حدثًا رائعًا بكل المقاييس" حسب تعبيره.

ولا يتوقف هذا التواصل عند حدود اجترار الذكريات، بل يتعداه ليجلب الجنيهات الإسترلينية. وفي هذا السياق يقول العميد سينكوك ملحق الدفاع السابق في السعودية: "بالنسبة للبريطانيين الذين يجوبون العالم، ومثلما فعلت أنا عندما كنت عسكريًا، فإننا نقابل أشخاصًا ممن درسوا في (ساندهيرست) وتبدأ الصلة معهم فورًا، وأعتقد أن هذا مفيد جدًا لنا".

كما يلاحظ أن الشعور بالفخر والوفاء تجاه ساندهيرست يظل قويًا حتى بعد وصول خريجيها إلى مناصب الملوك والزعماء (ويتجلى ذلك في رعاية الملك حسين وسلطان بروناي وملك البحرين لاحتفالات تخرج الطلاب نيابة عن الملكة اليزابيث) .. وأخيرًا لا بد من القول: إن الحكاية بين الملوك والأمراء العرب وأكاديمية (ساندهيرست) تمتد إلى ما هو أبعد من أسماء تُذكر أو ملايين تُهدى، فهذه الأكاديمية في الحقيقة هي من بقايا الماضي الاستعماري ولا زالت تعمل كما كانت في السابق لخدمة أغراض استعمارية حديثة ولكن بأدوات جديدة.

هكذا تم صنع العديد من حكام وقيادات المسلمين، وتتضح الصورة في كم بذل الغرب المستعمر العدو للإسلام والمسلمين في سبيل صناعة قيادات للمسلمين في كل مجالات الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية وغيرها، وبشتى الوسائل والأساليب وبأموال هائله تنفق على ذلك جلها من أموال المسلمين، وهكذا يتم إنتاج وكلاء الاستعمار من قيادات بلاد المسلمين، في مؤسسات وأكاديميات ومراكز أجنبية، تقبل من يحققون شروط  التبعية والانقياد منهم، لتبدأ رحلة صناعتهم ببرامج يشرف عليها خبراء التحطيم والبناء من جديد وخبراء في النفسيات والسلوكيات ، تعيد تشكيلهم ليخدموا مصالح المستعمر بدهاء ومكر وكذب وخداع لشعوبهم الذين يمهدون لهم السلطة عليهم، تساعدهم في ذلك الماكنة الإعلامية المؤثرة والمشوهة للحقائق والمضللة للعقول، والتي تصنع من تبعية هؤلاء المستنسخين استعماريًا، شعارات وطنية براقة وحاضنة شعبية أسيرة للبطولات الزائفة لهؤلاء القادة، فتتثاقل هممهم عن مواجهتهم وصدهم بفضل جدران نفسية وهمية في ظاهرها الرعب وباطنها الوهن والباطل، تجعل الأمة في حقيقة أمرها منفصلة تمامًا عن حكامها وقادتها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.

إن الإسلام وحده الدين الحق الذي يصنع القيادات الحقيقية صناعة طبيعية، فهو الذي يؤهل الشخصيات الإسلامية بعقليات ونفسيات إسلامية منسجمة مع مبدئها، يصقلها الإسلام, ويربيها ويهيؤها للقيادة، ويوجهها وينميها نحو العدل والفطنة لتحقيق أهداف الإسلام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالذي يعي ويدرك معنى قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فالإِمَامُ رَاعٍ وَهو مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،) ، يدرك تمامًا معنى القيادة والمسئولية التي تحقق الرعاية الصادقة  للرعية.

د. احمد حسونة

نائب رئيس المكتب الاعلامي لحزب التحرير- ولاية الاردن

المصادر:

* http://www.sasapost.com/sandhurst-and-the-gulf-states/

* http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2014/08/140826_sandhurst_sheikhs

* http://news.alkhaleejaffairs.online/c-13355

* http://alwaght.com/ar/News/15624/

* http://www.moqatel.com/openshare/book/mok014.htm