23 من ذي القعدة 1445    الموافق   May 12, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




 

وقفة مع كتاب الله

( مقالة) الجزء الأول


مكر الكفر ومخططاته كشجرة خبيثة ما لها من قرار


قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). (الآية 36 من سورة الأنفال)


الحمد لله حمداً يليق بعظمته وجلاله, فهذه الآية من المبشرات العظيمة التي يجب ألا تغيب عن ذهن الأمة الإسلامية  مهما تكالبت عليها قوى الكفر، واشتدت عليها المحن، وعصفت بها الأعاصير والرياح، وتلاطمت على قارب النجاة أمواج عاتية، ظلمات بعضها فوق بعض، وتلبدت في وجهها الغيوم، وعم الضباب وانتشر الظلام  وغيم اليأس، وصرخت ألسنة الحزن، وآهات الثكالى من أعماق القلوب، لكنها مع شدة الاستيئاس تؤمن بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وتعتقد اعتقادًا بوعد الله  وعدًا من الله الذي لا يخلف وعده, وبشارة لأمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون)- (النور 55)، وترتل بقلب مؤمن هذه الآيات، فشجرة الكفر مهما بدت كبيرة لكن جذورها على سطح الأرض ظاهرة؛ لأن بذرتها ألقيت في أرض العقيدة الإسلامية، فلفظت الأرض بذرتها, وقذفت بها على سطح الأرض, معلنة أن هذه الأرض لا تنبت إلا إسلامًا, وأن رجال هذه الأمة نتاج العقيدة, فلن ترتد هذه الأمة, ولن تكفر بمبدئها مهما طغى الكفر وتجبر، ومهما ظن أنه سيطر، فهذه أمة الوعد والتمكين، وأمة الجهاد والاستشهاد  وأمة البقاء.


ونبدأ بعون الله ببيان بعض جوانب ما في هذه الآية من أمور عظيمة فنقول وبالله التوفيق: لقد ابتدأت هذه الآية الكريمة بالجملة الإسمية التي تفيد الثبات بحرف التوكيد (إنَّ) ثبات لما ورد فيها أن مكر الكفر, وإن امتد وطال, وظن الكفر أنه أحكم القبضة, وبدا لضعاف القلوب والمنافقين أن الكفر قد استحكم (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ, وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ, وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال), فإن هذا المكر وإن علا  فهو زائل لا محالة, بل  يعقبه حسرة وندامة, ثم غلبة للمؤمنين بنصر من الله كبير, ويومئد يفرح المؤمنون بنصر الله.


ومما يلفت الانتباه أن الآية بدأت بحرف التوكيد تأكيدًا لما ذكرته الآية فيما بعد, ولكن الله عبر عنهم بصفة الكفر, وقدم الفاعل دلالة منه على بيان أن المحرك لهم هو كفرهم, وحقدهم على الإسلام ، فقدم الفاعل على الفعل فما دام الكفر موجودًا كيانات, فلن تهدأ المعارك, ولن يستقر الأمر إلا بغلبة أحد الطرفين؛ ليكون العالم كله دارًا واحدةً يحكمها نظام واحد.


وقد عبرت الآية بفعل المضارع في قوله (ينفقون) الذي يفيد الاستمرارية, فهذا دأبهم, وأن الإنفاق مستمر لإعداد العدد لغزو المسلمين، فإنفاقهم حصل في الماضي, ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق؛ لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم, وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه، والتعبير بالفعل المضارع (ينفقون) للدلالة على الدوام والاستمرارية, فالكفر لن يتوقف عن الصدّ، وهذه لفتة مهمة لأمة الإسلام, تفرض علينا اليقظة والانتباه على الدوام؛ لأن  سكون الكفر - في الظاهر- في فترات إنما يحمل في طياته تخطيطًا لمكر قادم, وصدٍّ كبيرٍ, فهم في حركة مستمرة بين تفكير وتنفيذ وتخطيط وتحضير، وهذا يدلل قطعًا أن مبعث الصدِّ والمكر هو الكفر، ولن يلتقي كفر وإسلام، فكيف يلتقي إسلام وكفر؟ وهذا لفتة مهمة للذين ينادون بالحوار والقواسم المشتركة  واللقاء والإنسانية  فهم حقيقه يريدون من الأمة أن تنتقل من دائرة الإسلام إلى الكفر، وقد جلّى القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ, وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ, قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى, وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ). فكيف بكم وأنتم تقرءون كتاب الله؟ وهو يحذركم من هذا الخطر عليكم وعلى أمة الإسلام؟ ويقول لكم: إن هدى الله هو الهدى, فلا هدى في غيره، فكيف تجلسون؟ وعلى أي أرضية تحاورن؟ ولمصلحة من تعملون؟ وأنتم تخدمون الكفر؟ وتظنون أنكم تحسنون صنعًا - إحسانًا للظن ببعضكم - ضد أمتكم وضد عقيدتكم ودينكم.


وأما التعبير ب (يصدوا) ففيها نقاط مهمة:- التعبير بالصدّ وهو المنع, وليس الإعراض هنا  في هذه الآية؛ لأن مادة (صدد) وردت في القران الكريم على معنيين رئيسين:-

الأول: الصد بمعنى المنع، من ذلك قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله). (الأعراف45) أي: يمنعون الناس من الإيمان. ونحو هذا قوله سبحانه: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله). (الحج 25) ومن هذا الباب قوله عز وجل: (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين). الثاني: الصد بمعنى الإعراض، من ذلك قوله تعالى: (رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا). والمتحصل: أن لفظ (الصد) ورد في القرآن الكريم على معنيين رئيسين - كما هو الحال في أصل معناه اللغوي- جاء بمعنى (المنع) وهو الأكثر ورودًا في القرآن الكريم. ومحل البحث هنا أن الصدّ  بمعنى المنع, وليس الإعراض, فمن أعرض أعرض بنفسه, ولعله اكتفى بإعراضه, وأقتصر الأمر على نفسه, أما المنع فهو منع لغيره, فالكفر ليس فقط أعرض عن سبيل الله بذاته, وإنما هو  يمنع غيره, ويستخدم في هذا المنع الأموال لحرب الإسلام, وهذا المنع سوف يستمر, وفي هذا المنع محاربة   للإسلام فكرًا وكيانًا, محاربة له قبل إقامة كيانه السياسي, ومحاربه له بعد إقامته, محاربه لوجوده وامتداده وفتوحاته, ومحاربة لعودته,


ومحاربة حملته الذين يعملون لعودة الإسلام كيانًا سياسيًا, يطبق الإسلام داخليًا, ويحمله هداية وخيرًا للبشرية, وهذه المحاربة تأخذ عدة أشكال: سواء محاربة الإسلام في ذاته بوصفه بالإرهاب والقتل والدمار, أو بالتشكيك فيه, أو بمحاولة تحريفه من خلال أدوات لهم (حكام, علماء، أحزاب, مفكرون ....) ومحاربة مادية بحرب حقيقة, حرب على كل من يحمل مشروع الإسلام, حرب لا هوادة فيها, وأنى لهم القضاء عليهم, وإن كانت سنة الله بالبلاء والصبر والتمحيص ليميز الله الخبيث من الطيب, فما كان الله ليذر صف المسلمين على دخن فيه, بل لا بد من التمايز والتمييز ليكون فسطاط إيمان لا نفاق فيه نسأل الله أن نكون منهم.


واللام في (ليصدوا) هي لام التعليل, أي أن علة الإنفاق هي الصد عن سبيل الله, فهذه غايتهم فكل حركة, وكل سكنة, وكل مكر وفكر, ولقاء وإنفاق, وتسليح وإعداد إنما هو للصد عن سبيل الله. والتعبير بقوله تعالى: (عن سبيل الله) فيه مسائل دقيقة:-


أولا: جاءت سبيل نكرة مع الإثبات لتفيد العموم, بمعنى أن الكفر يحارب, ويصدّ كل سبيل لله, فمثلا غض الكفر النظر لفترة عن جمع المساعدات لاعتبارات في وقتها, ولكنه انقلب عليها بعد أن سكت لفترة, وزعم أنها تموّل الإرهاب, وأصبح يقنن القوانين, والتشريعات, ويخضع التحويلات المالية للجهات الأمنية. هذه نقطة, وأخرى أن سبيل جاءت مضافة (سبيل الله) ليبين لنا أن حرب الكفر إنما هو ضد الإسلام أولاً وآخرًا, والأهداف والغايات الأخرى علي أهميتها تبعية.


ونقطة ثالثة أن سبيل جاءت مفردة وليست جمعًا وأينما وردت كلمة سبيل الله وردت مفردة  لأن طريق الإسلام واحدة, وليست متعددة, وليست عقلية, ولا اجتهادية, وتمتاز بالثبات والوضوح والقوة, ولا طريق غيرها لأن الإسلام فكرته واحدة, وطريقته واحدة؛ لذا قال تعالى: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). سبحان الله ما أعظم وما اروع بلاغة كتاب الله!! فالاسلام بين أن طريقته واحدة, وأن تعدد الطرق  ليس من الإسلام في شيء, بل هو سلوك طريق الباطل, وابتعاد عن طريق الحق, ثم يأتي من المشايخ من يقول لك: "هذه كانت زمن العصر الأول, ولا تلائم هذا العصر". و "هذه تتغّير تبعا لتغير الزمان والمكان, فيضربوا أحكام الله؛ ليجعلوا منها فلسفة عقلية, تخضع لأهواء ومتطلبات الكفر؛ ليكون كغيره من الأديان قابلاً للتغيير والتبديل, وتغير الأحوال, ولا حول ولا قوة إلا بالله.


وفي الحديث عن  عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَسَارِهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ، وَقَرَأَ (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) وخط الله وسبيله مستقيم, وإن طال الطريق, وسبيله واضحه وليست متعرجة ولا معوجة, وسبيله هو الذي يؤدي إلى أمرين هما:- أولا رضا الله, وهي غاية الغايات.


ثانيا:- أنها  توصل إلى الغاية شرعًا وعقلا, وأن أي طريق موهوم, كالدخول في الانتخابات, والمشاركة في الحكم وغيرها من الطروحات, وصلت لا أقول: إلى طريق مسدودة, وإنما إلى ما رأينا من أحداث بعد إضاعة الجهود, وإراقة الدماء, ومباعدة الغاية وإطاله الطريق. والتعبير بواو الجماعة في (ينفقون), و(ليصدوا), من خلال استخدام (صيغ الجمع) و (واو الجماعة) دلالة على أن حركة الكفر جماعية, وبالتالي يجتمع الكفر على هذه الغاية جماعيًا, وإجماعيًا ضد الإسلام, ولو تناقضت مصالحه؛ لأن هناك مصلحة حيوية كبرى تجمعه, وهي حرب الإسلام, ولكنه في غير الإسلام وأهله لا يجتمع, ولا يلتقي؛ ولذا كانت ملة الكفر واحدة, واجتماعهم على الإسلام, فالكفر لم يجمتع على تسلح كوريا الشمالية, وعلى منع مذابح المسلمين في بورما, وإفريقيا الوسطى, وعلى دور روسيا في الشيشان, ولكنه اجتمع لحرب العراق, وثورة الشام, واجتمع لحماية أمن يهود وبقائهم على أرض الإسراء والمعراج!!

 


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية الأردن

حسن حمدان /أبو البراء

 

 

يتبع الجزء الثاني  إن شاء الله

 

 

     
24 من شـعبان 1437
الموافق  2016/05/30م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد