13 من ذي القعدة 1445    الموافق   May 2, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




همسات
الخوف من الله وحده والرجاء بما عنده


لقد قررت وزارة الأوقاف في الأردن أن تكون خطبة الجمعة الموحدة ليوم 4/8/ 2017م بعنوان: "الخوف من الله تعالى" وسيكون لنا وقفات مع خطبة الجمعة هذه لنقف على أبرز النقاط التي تهم المسلمين في موضوع الخوف من الله تعالى.


أولًا: إن المؤمن في هذه الحياة لا غنى له عن أمرين حتى يلقى الله تعالى وهما: الخوف والرجاء، والخوف والرجاء متلازمان لا ينفصلان أبدًا فالمؤمن يخشى ربه، وفي المقابل يرجوه ولا يعصيه، والخوف والرجاء كمثل الطائر لا يطير إلا بجناحين، وإذا نقص أحدهما وقع النقص وانتفى العمل، فالخوف بدون الرجاء قد يدفع صاحبه إلى اليأس والقنوط والكفر والعياذ بالله، والرجاء دون خوف قد يدفع إلى ترك العمل؛ لذا كان الخوف والرجاء متلازمان لكي يتحقق العمل. ويؤكد هذا المعنى ما ورد في السنة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك"؟ قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف". (رواه الترمذي، وابن ماجه).


ثانيًا: الخوف في الإسلام نوعان: الخوف الممدوح والمطلوب شرعًا، وهو الخوف من الله تعالى وحده، والذي يدفع صاحبه للعمل بما أمر الله، والابتعاد عما حرمه الله ونهى عنه قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) وقال الله عز وجل: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال عز وجل: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (رواه ابن المبارك في الزهد) وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية". والخوف عبادة كسائر العبادات، فلا يُشرَك مع الله أحدٌ، ولا تصرف لغير الله تعالى، فلا يخاف المسلم غير الله، ولا يخشى إلا الله، وهذا هو الخوف المطلوب والواجب شرعًا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: صِدْقُ الْخَوْفِ: هُوَ الْوَرَعُ عَنِ الْآثَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: "الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ". (مدارج السالكين).


والخوف المذموم والمحرم شرعًا وهو الخوف من غير الله: وهو الخوف الذي يحمل على ترك واجب، أو فعل محرم، ومظاهره كثيرة نذكر أبرزها: كمن يخشى قول الحق مخافة سلطان، ولا يبين للناس الحق، فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة مكروه يصيبه، أو أذى يلحقه، أو تهديد بقطع الأعناق والأرزاق، أو الحبس والنفي، وما شابه هذا من أساليب هذه الأنظمة في تخويف الأمة من كلمة الحق.


جاء في تحفة الأحوذي للمباركفوري: قوله: "إن من أعظم الجهاد"، وفي رواية: "أفضل الجهاد كلمة عدل": أي كلمة حق، كما في رواية. والمراد بالكلمة ما أفاد أمرًا بمعروف، أو نهيا عن منكر، من لفظ أو ما في معناه ككتابة ونحوها. "عند سلطان جائر": أي صاحب جور وظلم ... وقال المظهر: وإنما كان أفضل لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته وهو جم غفير، فإذا نهاه فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر. وقد بين الله لنا حرمة هذا النوع من الخوف حيث قال الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). قال الله عز وجل: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال عز وجل: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخشَوْنِ) وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)


وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه". وأبرز مظاهر الخوف المذموم والمحرم شرعًا وأخطرها وأشدها أثرًا على الأمة هو خوف العلماء والوعاظ والأئمة، من بيان أحكام الشرع الواجب بيانها خشية السلطان، وكيف يكتمون الحق، وقد أخذ الله عليهم وجوب بيانه وحرمة كتمانه حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). وفي الآية تهديد شديد بلعنة من الله، وهو الطرد من رحمته، ثم يلعنهم اللاعنون، ولا تقبل لهم توبة إلا بشروط حددتها الآية وهي:


1. الشرط الأول: التوبة الخالصة الصادقة لله، وعدم العودة للكتمان، ووجوب البيان لما كتمه، وعلى من كتمه فردًا كان أو الأمة.


2. والشرط الثاني: وهو إصلاح ما أفسده، وما ترتب على كتمانه، وبعض أنواع الكتمان لا يستطيع إصلاحه كمن أجاز للحكام قتل الناس في رابعة مصر، والشام، والعراق، فأي ويل وذنب يلحقه، وأي إصلاح وقد أزهق الأرواح، وهتك الأعراض.


3. والشرط الثالث: البيان للحق في كل موقف مطلوب منه البيان والثبات عليه.
والأصل في العلماء بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس، فهذا ميثاق الله عليهم، ثم هم بالأصل والمفروض بهم أنهم أشد الناس خشية لله تعالى وخوفا منه بما علموا قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فكيف يستقيم بهم أن يخافوا غير الله ويكتموا ما أنزل؟!


لا بل إن بعضهم وقف مع الأنظمة خوفًا منها أو رجاءَ مصلحة فأفتى لهم بجواز قتل حملة الدعوة، ودعاة الحق وسجنهم، وأفتى بجواز الصلح مع يهود، وجواز إقامة القواعد الأمريكية في بلاد الإسلام، والتعاون الأمني والاستخباراتي مع دول الكفر تحت ذريعة محاربة الإرهاب، والمشاركة في قتل المسلمين، وجواز اقتتال المسلمين فيما بينهم، وحصارهم ومقاطعتهم، وإعانة بعض دول الكفر عليهم في الوقت الذي ينادون فيه بجواز الصلح مع يهود، وحرمة قتالهم والتطبيع معهم، وقد قص علينا ربنا موقفًا من مواقف الذين علموا الحق فوقفوا مع الباطل حيث قال تعالى في شأنهم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث...)


وفي الختام إنَّ تدبر أحوال الظالمين من الأمم السابقة الذين أخذهم الله بذنوبهم ترينا كيف انتقم الله منهم؟ وما هو حالهم اليوم بعد أن باغتهم العذاب؟ قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) فهم لنا ذكرى وموعظة، ولا زالت آثارهم تذكرنا بما فعله الله بهم، وإن تذكر أهوال يوم الفزع الأكبر، يوم الموقف العظيم تجعل ما من مؤمن عاقل إلا يخاف الله ويخشاه، ولا يخشى أحدا سواه، يلتزم أمره، ويجتنب نهيه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) وقال عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). وقد بين الله لنا أن الأقلام رفعت، والصحف جفت، فأين يكون موقع الخوف بعد هذا؟ مصداقا لقوله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولقوله صلى الله عليه وسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)


والحمد لله رب العالمين على نعمة الخوف منه وحده والرجاء بما عنده


 

     
11 من ذي القعدة 1438
الموافق  2017/08/03م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد